من مكة القديمة.(أرشيف)
من مكة القديمة.(أرشيف)
الأحد 7 يناير 2018 / 18:27

مكة في عشرين سنة

كانت أبراج مكة تُعتبر "المول الكبير" في هذه البقعة الجغرافية، حيث كانت تتفرد ببيع "الدونات" المُنسق والتمر المُغلف بالشوكولاته والفستق وجوز الهند، وكان فيها محلات الإلكترونيات التي كانت تبيع أشرطة مقلدة من "بلي ستيشن 1" وسيارات "الريموت كونترول"، وكانت مقصد النساء الأول لشراء الملابس والهدايا

تربطني بمكة المكرمة علاقة تمتد إلى عشرين سنة، عرفتُ مكة القديمة التي ربما لم يدركها من وُلد في بداية القرن الحالي، حيث الفنادق المتواضعة والمكيفات التي تقذف الماء في شوارعها الضيقة ومباشرة على رؤوس المارين من تحتها. كانت مصاعد الفنادق تُصيب الناس بالاختناق من كثرة من يحشرون أنفسهم في داخلها، هذا عدا عن وقت الانتظار الطويل حيث كان يقف المصعد عند كل طابق، وكان بابه يُفتح ببطء شديد ويُغلق ببطء أشد منه، وعندما يخرج الفرد من المصعد فإنه لابد وأن يكون قد خسر شيئاً من حسناته وزاد شيئاً من سيئاته خصوصاً بعد فوات الصلاة التي خرج من أجلها. أما غرف فنادقها فعادة ما كانت أسِرّتها رثة تُهيج مشاكل الحساسية والربو عند الناس. وكانت حماماتها من العصر الجاهلي الذي لم يتغير منها عبر التاريخ إلا لون الطابوق وصنابير المياه.

كانت تنتشر في مكة القديمة المحلات الصغيرة التي نستطيع اعتبارها وريثة سوق عكاظ القديم، والتي كانت تبيع شيئاً من كل شيء، من الدبوس والمسابيح والمساويك والتمور إلى السجّاد والعطور وأشرطة الفيديو المُقلدة. وإذا كان في المحل فُسحة فإنه يبيع الآيس كريم بنكهتي الفانيليا والشوكولاته أو كليهما. أما مطاعمها فهي مثل محلاتها، نُسخ مقلدة من بعضها بعضاً، حيث كانت تتناوب على بيع الشاورما والطعمية والشكشوكة ورز البخاري والتندوري والخبز الأفغاني والعربي واللبن المحلي وعصير "السلاش". وقبل أكل الكيك الأصفر كنّا نتأكد من تاريخ انتهائه ونتأكد من خلو كيسه من الحشرات التي قد تتسرب إلى داخله.

أما مكتباتها فكانت منتشرة في كل شارع وزُقاق والتي كانت تُذيع آيات القرآن الكريم في كل مكان، وربما كان أشهر المكتبات هي مكتبة نزار الباز التي كانت تطبع الكتب الدينية القديمة مثل تفاسير القرآن وشروح الأحاديث وتبيع المجلد الواحد منها بسعر خمسة ريالات فقط، فكانت محط أنظار الباحثين عن ربطات الكتب بأسعار الجملة المُخفضة.

كانت أبراج مكة تُعتبر "المول الكبير" في هذه البقعة الجغرافية، حيث كانت تتفرد ببيع "الدونات" المُنسق والتمر المُغلف بالشوكولاته والفستق وجوز الهند، وكان فيها محلات الإلكترونيات التي كانت تبيع أشرطة مقلدة من "بلي ستيشن 1" وسيارات "الريموت كونترول"، وكانت مقصد النساء الأول لشراء الملابس والهدايا ولعب الأطفال مباشرة بعد الفراغ من أداء المناسك.
اليوم تبدلت مكة، وأخذت تُسابق مظاهر العولمة في المدن السياحية الكبرى، فصار الحاج يأكل في مطعم "فايف قايز" ويشرب القهوة في "ستاربكس" ويشتري ثياباً من "تومي هيلفجر" و"بيفرلي هيلز"، وكأنه في مول دبي، وقد يتلقى المعتمر خدمة المساج في نفس المكان الذي كان ينبطح فيه أبوجهل في وقت القيلولة، وقد يقضي وقتاً في حمام الساونا حيث كان الوليد بن المغيرة يتناول عنب الطائف من يد جاريته الرومية.

من رأى مكة القديمة فحتماً سيحبها كما هي ولن يقبل أن تتحول ذكرياته وجولاته فيها إلى تاريخ لم يتبقّ منه إلا الصور، لكن سُنة التقدم تأبى إلا أن تفرض نفسها، فأرقام القاصدين في ازدياد وحاجاتهم لن تلبيها مكة في إمكانتها السابقة التي كانت تلبي حاجات الناس في أواسط القرن العشرين، فطريق مكة صار مختصراً وآمناً وفي متناول كثيرٍ من المسلمين.

إن كنتُ على قيد الحياة بعد خمسين سنة فلعلني أرى مكة وقد تحولت إلى ساحة ضخمة تبتلعها الفنادق ومحطات المترو والمراكز التجارية، وقد أرى الناس يطوفون حول الكعبة ويسعون بين الصفا والمروة في مصاعد وأدراج وعربات متحركة، فالأمر متروك إلى وعي الناس بضرورة مسابقة العصر في كافة المجالات الفكرية والعمرانية قبل أن يسبقهم.