باحث في مخبر علمي (أرشيف)
باحث في مخبر علمي (أرشيف)
الأحد 21 يناير 2018 / 20:24

لآتين بما لم تستطعه الأوائل

للأسف تضيع إنجازات المبدعين والمخترعين الحقيقية بين آلاف الإنجازات السطحية والموهومة بسبب كون أصحابها لا يجيدون تسويق بضاعتهم، أو لأنهم لا يملكون الوقت الكافي لإعارة أي انتباه إلى ما يدور في الخارج

عندما يتصل بك صحفي من أجل أخذ تصريح عن حالة الطقس في الشتاء، فإنه لا ينتظر كثيراً حتى يُطلعك على أحد أسرار الصحافة "الاحترافية"، السر هو أن توافق على ذكر اسمك في التحقيق الصحفي، وأن تترك الباقي لقلم الصحفي الذي يمتلك خبرة لا تقل عن عشرين سنة في الإنشاء والتلفيق والترقيع بين المعلومات المختصرة التي يختلسها منك، قريحتك قد لا تجيد عليك بأكثر من جملة "الشتاء جميل"، والتي تتحول في اليوم التالي إلى "وعبّر الاستاذ "محمود أبوخشخش" عن جمال الأجواء الخلابة بقوله إنه لم يشهد في حياته كلها نسائم معتدلة كالتي يشهدها الآن، فلا هي باللاسعة ولا هي بالباردة، وتتراوح بين ذاك وذاك في تناغم معتدل لا مثيل له، هذا ما دفعه إلى إلغاء سفره إلى مرتفعات "إنترلاكن" السويسرية هذه السنة للاستمتاع بالأجواء الساحرة هنا"!

في الجهة المقابلة هناك من يمنح التسهيلات لمثل هؤلاء الصحفيين -الذين لا يمثلون الصحافة الجادة- من أجل إعطائهم مادة جافة يحشون بها الفراغات بين المواضيع الحقيقية والمهمة من أجل أن تظهر الصفحة بكامل هيئتها المعتادة، فتكون المصلحة متبادلة بين الطرفين، ويكون ضحيتها القارئ الذي اعتاد تصديق الإنجازات وتقديس المتصدرين لصفحات الجرائد.

إحدى الصحف نقلت ذات مرة أحد أن "الفطاحلة" تمكن من الإجابة عن 180 سؤالاً في امتحان تخصصه ليجتاز بذلك امتحان الدراسات العليا بنجاح، لكن لم يخبرنا التحقيق الصحفي هل أجاب الطالب على كل الأسئلة إجابة صحيحة!؟ والأمر الآخر كم طالب بكالوريوس أو دراسات عليا -متزوج أو مُطلق أو أرمل- وعلى رأس عمله تمكن من اجتياز امتحان الخيارات المتعددة الذي يتكون من آلاف الأسئلة؟

حاولت أن أُحصي الأسئلة التي أجبتها في كلية الطب فقدرتها بـ 1500 سؤال تقريباً، واجتزت امتحانات الكلية والدراسات العليا مع آلاف من الطلبة الذين سبقوني والذين أتوا بعدي، فأين الإنجاز الخارق في الموضوع؟ آلاف الطلبة صاروا أطباء وصيدلانيين وفنيين، لكن كم واحداً منهم طوّر دواءً جديداً لعلاج مرض السكري أو ارتفاع ضعط الدم؟ كم واحداً منهم أجرى عملية جديدة لاستئصال سرطان البنكرياس أو عملية حديثة لمكافحة السمنة؟ كم واحداً منهم اخترع أساليب جديدة لعلاج العقم في العالم؟ كم واحداً منهم تمكن من تصنيع تطعيمات للفيروسات المعدية؟ إنهم يُعدون على الأصابع، وهؤلاء هم فعلاً من يستحقون لقب "الأول".

الإنجازات مراحل وطبقات، فهناك ما يُحتفى به على المستوى الشخصي مثل كونك أنقصت ثلاثين كيلوغراماً من وزنك في ستة أشهر، وهناك ما يُحتفى به على المستوى العائلي مثل كونك أول من أنجب حفيداً في العائلة سُمّي على اسم جده، وهناك ما يُحتفى به على المستوى الجغرافي المحدود مثل كونك حُزت المركز الأول مكرراً في المرحلة الإعدادية على مستوى المنطقة التعليمية، وهناك ما يُحتفى به على المستوى الوظيفي مثل كونك أكثر موظف ملتزم بالبصمة، وهناك ما يُحتفى به على المستوى العالمي مثل كونك اكتشفت عقاراً يعيد وظائف الكلى إلى طبيعتها عند المرضى الذين يضطرون أن يقوموا بغسيل الكِلى ثلاث مرات أسبوعياً.

تحصل الكارثة عندما تعتقد أن إنجازاً شخصياً محدوداً يستحق أن يُحتفى به على المستوى العالمي، في كلٍ منّا "أول"، لكن هل هذا "الأول" تجربة خارقة للعادة أجراها الله على يديك؟ هل هذا "الأول" صالح لأن يكون قدوة للناس من حولك؟ هل هذا "الأول" مؤهل لأن يغير العالم من حولك؟ هل هذا "الأول" مؤهل لتحسين أحوال الناس الصحية والاقتصادية والاجتماعية؟

للأسف تضيع إنجازات المبدعين والمخترعين الحقيقية بين آلاف الإنجازات السطحية والموهومة بسبب كون أصحابها لا يجيدون تسويق بضاعتهم، أو لأنهم لا يملكون الوقت الكافي لإعارة أي انتباه إلى ما يدور في الخارج.

عندي صديق إماراتي حاز على درجتي الماجستير والدكتوراة في الجينات من جامعة إدنبره التي أجرت أول عملية استنساخ ناجحة لنعجة في العالم، فقط ابحثوا في مواقع الأخبار هل اُحتفي بإنجازه كما اُحتفي بحادثة افتتاح "فانشيستا" لمطعم شعبي يبيع القيمات والبثيث والهريس؟ هؤلاء هم الذين يجب استكشافهم ودعمهم وتكريمهم رغماً عن أنوفهم، فالحضارة تُبنى بعقل الفيلسوف والمفكر وبساعد العالِم والباحث، الذين نجحوا بالإتيان بما لم يستطعه ولم يعلمه ولم يفعله الأوائل.