الفيلسف الألماني كارل ماركس(أرشيف)
الفيلسف الألماني كارل ماركس(أرشيف)
الأربعاء 24 يناير 2018 / 20:24

... إنّه الكذب!

قضت مصادفات الأزمنة بأن يُحتفل في الشهر الأوّل من هذا العام 2018، بذكريين: الذكرى السنويّة الـ 200 لولادة كارل ماركس، والذكرى السنويّة الـ 100 لولادة جمال عبد الناصر.

ما خلق الجمع المزعوم بين الرجلين، مع مرور الأزمنة، هو، بكلمة واحدة: الشعبويّة، أو بالأحرى، تأويل الشعبويّة للتاريخ والواقع

ما خلا المصادفة الزمنيّة ليس هناك ما يجمع بين المؤرخ والاقتصادي الألمانيّ الذي صرف حياته في نقد الرأسمالية والدعوة إلى نظام إشتراكي بديل بقيادة الطبقة العاملة الصناعية، البروليتاريا، وبين الضابط المصريّ الذي نفذ انقلاباً عسكرياً في 1952، ما لبث أن توّل بعده إلى ديكتاتور وزعيم للحركة القوميّة العربيّة.

لكنّ ما خلق الجمع المزعوم بين الرجلين، مع مرور الأزمنة، هو، بكلمة واحدة: الشعبوية، أو بالأحرى، تأويل الشعبوية للتاريخ والواقع.

فمع انحطاط الشيوعية، في الاتحاد السوفييتي وخارجه، ومع الالتحاق الكامل لبقايا الأحزاب الشيوعية بالأنظمة والتنظيمات القومية والدينية في "العالم الثالث"، أعيدت صناعة كارل ماركس بوصفه مجرّد مناضل ضدّ الاستعمار، وضدّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة خصوصاً. وعبر إعادة الإنتاج الزائفة هذه، رُسم الفيلسوف الألماني كأنه مانح البركة لقادة عسكريّين ودينيّين، من نوع عبد الناصر أو آية الله الخميني أو حافظ الأسد، موصوفين بمناهضة الإمبرياليّة.

في المقابل، مُدّ جسر بين عبد الناصر وماركس بالاستفادة من لحظات تاريخيّة بعينها، كالعدوان الثلاثيّ في 1956، ومصالحة الستينات مع موسكو التي نجم عنها حل الحزب الشيوعي المصري واندماج الشيوعيين المصريين في "الاتّحاد الإشتراكي العربي" الذي أقامه عبد الناصر.

لكنْ بالطبع تمّ تجاهل الضربات التي كالها عبد الناصر للشيوعيّين في 1953 و1954، وخصوصاً في 1959، والتي تعدت يومذاك الشيوعيين المصريين إلى الشيوعيّين السوريين، بفعل وحدة 1958-1961 مع سوريا. كذلك أريد للنسيان أن يطوي اللحظات الإيجابية لعلاقة عبد الناصر بالأميركيين، لا سيما بعد انقلابه مباشرة ثم إبان خلافه مع موسكو في أواخر الخمسينات، والتي أغاظت القادة السوفييت.

واقع الأمر أن هذه الحصيلة الشعبوية تضج بالأكاذيب، كما هو واضح.

لكنْ من قال إن الصدق هو الذي يحكم العالم، وهو الذي تكرس أعمال التأريخ نفسها لتنقله بأمانة ونزاهة؟ ألم ننتقل قبل ثلث قرن إلى ترداد تعبير الأمة العربية والإسلامية"، علماً أن الفارق بين أمة عربية وأمة إسلامية، مئات ملايين البشر؟

ولهذا تُجمع اليوم في موقف واحد، غالباً ما تعكسه الصور والملصقات، وجوه لا يجمع بينها جامع فعلي. فحين تحل الذكرى السنوية للاحتفال بأحدهم، يترافق الاحتفال والكذب كما تترافق العملة وقفاها.

لكنّ الكذب، هنا، ليس مجرّد موقف أخلاقيّ مرفوض. إنّه من نتاجات الغلبة التي ضمنتها الشعبوية للوعي الضدي، بحيث لا يتبقّى إلاّ أننا "ضد" طرف معين، هو هنا، وغالباً، الولايات المتحدة، بما يسوغ كل تأويل آخر للتاريخ ولرموزه.

المهم أن نلوي عنق التاريخ بما يجعله خادماً لتصورنا هذا عن الحاضر.

وما الجمع بين ماركس وعبد الناصر سوى عينة واحدة على الخيانات الكثيرة للحقيقة ومعرفتها. فمن أراد أن يعرف عليه أن يدعو، أولاً، إلى تحرير التأريخ والمعارف الاجتماعية عموماً من قبضة السياسة، وخصوصاً من قبضة السياسة الشعبوية، أتمثّلت في أنظمة سياسية أم في تنظيمات حزبية ومثقفين متحزبين. فحين يصبح ما نعرفه كذباً بكذب، لن تكون الطريق التي نسلك إلاّ طريقاً مفضية إلى الهزائم والتردّي على أصعدته جميعاً.

والكاذبون لن يقودوا شعوبهم، وقرّاءهم إلا إلى مثل هذه المصائر.