بوابة معسكر الإبادة أوشفيتز النازي في بولندا (أرشيف)
بوابة معسكر الإبادة أوشفيتز النازي في بولندا (أرشيف)
الأحد 4 فبراير 2018 / 19:24

الصراع على رأس المال الرمزي للهولوكوست..!!

على الرغم من حقيقة أن الهولوكوست لم يحتل مكانة مركزية في الهوية الإسرائيلية في العقود الأولى لنشوء الدولة، إلا أنه تحوّل إلى مكوّن رئيس على مدار خمسة عقود مضت، ليصبح مصدراً للابتزاز الأخلاقي والسياسي

أثار مشروع قانون أقرّه البرلمان البولندي، في الأيام القليلة الماضية، مجابهة مرشّحة للتحول إلى أزمة سياسية، ودبلوماسية، بين إسرائيل والولايات المتحدة من جهة، والحكومة البولندية من جهة ثانية. فالقانون، الذي ينتظر مصادقة رئيس الدولة، يجرّم استخدام صفة البولندية في سياق الكلام، أو الكتابة، عن معسكرات الاعتقال، التي أنشأها النازي على الأراضي البولندية، بعد احتلال البلاد، واقتسامها مع الروس، في الحرب العالمية الثانية.

كان احتلال بولندا سبباً مباشراً لاندلاع الحرب العالمية الثانية. وقد أنشأت ألمانيا النازية، بعد الاحتلال، عدداً من معسكرات الاعتقال، والإبادة الجماعية، على الأراضي البولندية، الأكثر شهرة بينها أوشفيتز وتريبلينكا.

وفي المعسكرين المذكورين، إضافة إلى معسكرات أصغر في مناطق مختلفة، تم القضاء على ملايين البشر، وبينهم أغلب يهود بولندا، إضافة إلى يهود من أوروبا الشرقية والوسطى.

ويسعى البولنديون، من خلال القانون الجديد، إلى تبرئه الأمة البولندية من وزر جرائم النازي، ويعاقب بالحبس، مدة تصل إلى ثلاث سنوات، كل شخص ألصق صفة "البولندية" بالمحرقة النازية، ومعسكرات الاعتقال والإبادة، عل الأراضي البولندية. ومبررهم، في ذلك، أن بولندا كانت بلاداً محتلة، وأن البولنديين لم يكونوا جزءاً من آلة الموت النازية، وإذا كان بعضهم قد تعاون مع النازي فقد فعلوا ذلك كأفراد، وبالتالي لا يتحمل الشعب مسؤولية جماعية أخلاقية، وسياسية، عن فعل لم يرتكبه.

للوهلة الأولى، يبدو الإصرار، تحت طائلة العقاب، على إعفاء الأمة البولندية من المسؤولية الجماعية عن حدث وقع قبل ثمانية عقود تقريباً، نوعاً من المماحكة التاريخية.

ولكن ردود الفعل الإسرائيلية والأمريكية، وكذلك دوافع الحكومة البولندية نفسها، تُخرج الموضوع من سياق الصراع على حقيقة الماضي، لتضعه على سكة الصراع على الذاكرة والمسؤولية والتاريخ بحكم ما لكل هذه الأشياء من دلالات سياسية وأخلاقية في الحاضر.

فقد تحوّل موضوع الهولوكوست، الذي أصبح أوشفيتز أحد عناوينه الرئيسة، إلى مسطرة أخلاقية وسياسية لقياس النزعات العنصرية والقومية المُتطرّفة، التي اقترنت في تاريخ الحركات القومية الأوروبية، ونشوء الدولة الحديثة، بكراهية التعددية الثقافية والعرقية، والدمج والقهر والتذويب القسري للأقليات، وأصبحت معاداة السامية أحد عناوينها الرئيسة. وهذه كلها توّجتها النازية في الحرب العالمية الثانية، وكان اليهود أبرز ضحاياها.

ورغم حقيقة أن الهولوكوست لم يحتل مكانة مركزية في الهوية الإسرائيلية في العقود الأولى لنشوء الدولة، إلا أنه تحوّل إلى مكوّن رئيس على مدار خمسة عقود مضت، ليصبح مصدراً للابتزاز الأخلاقي والسياسي. فالعالم، كما قال مناحيم بيغين، بعد غزو لبنان في العام 1982، وفي معرض الرد على ردود فعل غاضبة أثارتها العدوانية الإسرائيلية، في مناطق مختلفة من العالم، عليه أن يطلب الصفح من اليهود، لا أن يحاكمهم.

والواقع أن تحويل الهولوكوست إلى مصدر للابتزاز من جانب حكومات إسرائيلية متعاقبة أصبح موضوعاً للنقد من جانب يهود وإسرائيليين وجدوا فيه قناعاً للعدوانية من ناحية، ومصدر إعاقة أخلاقية وسياسية من ناحية ثانية.

وقد عبّر الأمريكي نورمان فنكلنستاين، الذي ينحدر من عائلة ناجين من الهولوكوست عن الاتجاه الأوّل في كتاب بعنوان "صناعة الهولوكوست"، وعبّر ابراهام بورغ، الرئيس السابق للكنيست، وللوكالة اليهودية، والذي ينحدر من عائلة صهيونية عريقة، عن الاتجاه الثاني في كتاب بعنوان "لننتصر على هتلر".

وعلى خلفية كهذه، إذا، يمكن فهم دلالات أبعد للمجابهة بين إسرائيل وأميركا من جهة، والحكومة البولندية من جهة ثانية.

فالمحرقة النازية، كمسطرة أخلاقية وسياسية، تحوّلت إلى حقيقة واقعة في عالم اليوم. ونتيجة هذا التحوّل، أصبح الصراع على ميراث الهولوكوست، وتفسيراته المحتملة، وما نجم عنه من مسؤوليات فردية أو جماعية، مصدراً للرهانات والمضاربات، وحقلاً للصراع على ما له من رأس المال الرمزي بالمعنى الأخلاقي والسياسي في عالم اليوم.

تحاول إسرائيل احتكار ميراث الهولوكوست لتبرير سياسات عدوانية لم تعد مقبولة في العالم، ولكن قيمته الحقيقية تتجلى في تحويله إلى ميراث للبشرية، لا إلى ملكية حصرية لهذه الجماعة أو تلك، وإلى مصدر للحض على احترام التعددية، وحقوق الإنسان، كما كتب المؤرخ الإسرائيلي توم سيغيف في كتاب فائق الأهمية عن الهولوكوست بعنوان "المليون السابع".

وهذا هو النص الغائب في المجابهة الأخيرة، والصراع على رأس المال الرمزي للهولوكوست.