السبت 24 مارس 2018 / 19:44

القرصنة .. حرب معزولة في أعالي البحار

هناك شح ظاهر في البحوث الجادة التي تتصدي لدراسة "ظاهرة القرصنة" أوجده في الأساس غموض عالم لصوص البحار، وقلة المعلومات المتوفرة عنه، في ظل صعوبة وصول الدارسين والباحثين إلى هؤلاء، وندرة سيرهم الذاتية المكتوبة، وقدم تجاربهم المريرة وتنوعها، وتعقد الكتابة عنهم، واستعصائها على فرد واحد حتى لو كان مسلحا بمعرفة موسوعية أو إحاطية، بل إن مجموعة من الباحثين ليس بوسعها أن تقف على هذه الظاهرة المتجذرة في تاريخ الإنسانية المديد وقوفا ضافيا، إلا بجهد بالغ، وتمويل طائل، وانكباب كامل أو تفرغ تام لها على مدار وقت كاف.

لكن شح المعرفة وضعف الإلمام بهذه الظاهرة في بعديها التاريخي والثقافي لا تصد ولا ترد عن إمعان النظر في صورتها الأخيرة التي توافرت عنها معلومات غزيرة نسبيا، بعد أن صارت عربية الطابع، بفعل قيامها على أكتاف مجموعات صومالية، بعد أن جالت وطافت في مشارق الأرض ومغاربها على مدار حياة الناس على الأرض، منذ أن مخرت السفن عباب أعالي البحار، حيث لم تترك القرصنة أمة ولا شعبا إلا ووصمته ببعض عوراتها.
ولم يعد من المستساغ أن يتعامل العرب بأعصاب باردة مع "ظاهرة القرصنة" التي تجري على قدم وساق في مياه المحيط الهندي وخليج عدن، ليس فقط لأنها تنطلق من أرض دولة عربية هي الصومال، بل أيضا لأنها ترمي إلى النيل من الأمن القومي العربي برمته، لاسيما بعد أن تكشفت تدابير واستراتيجيات مضادة تروم تدويل البحر الأحمر، وإضعاف الدور الحيوي الذي تلعبه قناة السويس في حركة الملاحة الدولية لصالح إحياء مشروع "قناة البحرين" الإسرائيلية.

ويؤدي استفحال ظاهرة القرصنة هذه إلى تبديد آمال عمرها سنين عقدتها مصر على "قناة السويس"، الشريان الحيوي والتاريخي لحركة التجارة الدولية المتدفقة بلا هوادة، والتي تصب في شرايين عولمة اقتصادية كاسحة، لا يزال النقل البحري أحد ركائزها الأساسية رغم السرعة الفائقة التي شهدها النقل البري والجوي، والطفرة الرهيبة التي قفزتها الاتصالات، بما حول الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة.

ابتداء فإن القرصنة تعني في جوهرها التعدي على حقوق الآخرين، وتنصرف بصيغة مباشرة إلى ارتكاب جريمة سرقة في عرض البحار أو على شواطئها، بيد عميل أو لص غير مدفوع من أي دولة أو حكومة. وتتطلب القرصنة شروطاً أساسية لقيامها، منها: توافر مواد أولية لصناعة السفن، وكذلك الورش والأيدي المهرة، ثم أسواق لتصريف البضائع المستولى عليها.

وطيلة التاريخ البشري المديد ظلت القرصنة مجالا خصبا للأدباء فأنتجوا على بساطها قصص وروايات تتراوح بين الواقعي والأسطوري، حفلت بها بعض الملاحم الشهيرة مثل الإلياذة والأوديسا، وجاءت السينما لتلقط هذه السرديات العامرة بالغرائب والأعاجيب وتصنع منها أفلاما شاهدها المليارات في كل أرجاء العالم.

وشكلت القرصنة هنا فصلا عريضا من فصول رهبة البحر لدى البشر، والتي تم التعبير عنها شعرا ونثرا وسينمائيا، لتتراكم لدي الإنسانية علامات عديدة على خشية البحر، والخوف من المجهول الذي لا يمكن التنبؤ بما يخبئه، واستحالة السيطرة على قواه المدمرة، جنبا إلى جنب مع علامات على إثارة البحر لروح التحدي والمغامرة والإبداع والخيال، وكعنصر لا غنى عنه في الحياة، حيث تُنقل السلع جميعها، وتمتد الجسور بين الثقافات، عبر سفن تحمل الأفكار إلى جانب البضائع والناس.

وقد امتد المصطلح إلى عالم الحاسوب فصار يعرف بأنه عملية نسخ البرامج الإلكترونية وبيعها، واستخدام الشبكات في التجسس والحصول على المعلومات، ويشمل أيضا مهاجمة موقع إلكتروني وتدميره إن أمكن.

ويعود تاريخ القرصنة إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة، لكن كلمة قرصان لم يتفوه بها أحد قبل عام 140 قبل الميلاد حين سطرها المؤرخ الروماني بوليبيوس. وعاد نظيره اليوناني بلوتارك ليرددها في نهاية القرن الأول قبل الميلاد، الذي ازدهرت فيه أعمال القرصنة، والتي كان أول ظهور لها في البحر المتوسط، حين استخدم أعداء الإمبراطورية الرومانية لصوص البحر لضرب مصالحها.

وقد أصبح القراصنة أيامها قوة ضاربة، حيث وصلت أعدادهم إلى الآلاف وكانت لديهم أكثر من ألف سفينة، وبحوزتهم الأسلحة والقلاع، فتمكنوا من مهاجمة السفن والموانئ، وخطف حكام وقضاة رومان، وطلبوا فديات كبيرة من المدن الساحلية والموانئ حتى يمكنها أن تعيش في سلام. ووصلت جرأة هؤلاء القراصنة إلى مهاجمة الأسطول الروماني الراسي في ميناء أوسيتيا فحطموه، ووضعوا روما على أبواب مجاعة نتيجة انقطاع طريقها التجاري.
 وفشلت عدة حملات جردها الرومان في القضاء على القراصنة، حتى جاء القائد بومباي عام 67 قبل الميلاد ليقود جيشا جرارا مكونا من مائة وعشرين ألف جندي مشاة، وخمسة آلاف فارس وخمسمائة سفينة، ويتمكن من هزيمة القراصنة وأسر عشرين ألفا منهم وتدمير نحو ألف وثلاثمائة سفينة لهم.

وولدت حركة القرصنة قوية من جديد على قبائل الفايكنج، الذين يقطنون الدول الإسكندنافية. وفي القرن التاسع الميلادي أخذ بحارة الفايكنج في الاتجاه شمالا وغربا وجنوبا، فوصلوا إلى أيسلندا وجرينلاند وكندا، ثم بلغوا شواطئ إنجلترا عام 787 م، واستولوا عليها وحكموها. وفي التاسع عشر هاجم القراصنة الفايكنج باريس، فاضطر ملوك فرنسا إلى دفع مبالغ طائلة لهم حتى يتقوا شرهم، وتمكن بعضهم من الاستيلاء على منطقة نورماندي شمال فرنسا، واستوطنوها واختلطوا بسكانها، وصاروا مع الأيام منهم، وأسسوا أقوى الممالك في أوروبا خلال القرن الثاني عشر الميلادي في صقلية وانجلترا.

ومارس البحارة الإنجليز أنفسهم أعمال القرصنة ضد السفن الأسبانية التي تمخر عباب القنال الإنجليزي عائدة من المستعمرات الأسبانية محملة بكل ما هو مفيد ونفيس. وامتدت هجماتهم إلى حدود أسبانيا القريبة وسواحل مستعمراتها في أمريكا اللاتينية. وفي القرن السابع عشر أسس قراصنة جزر الهند الغربية منظمة أطلقوا عليها "إخوان الشاطئ" أو "البوكانير" وتخصصوا في نهب السفن الأسبانية.

وخلال القرنين السابع عشر والثامن عشر بلغت القرصنة ذروتها، مع نمو القوة المركزية القوية في اليابان في ظل التكوجاوا شوجونيت (1603ـ 1867)، لكن أسرة شمى يانج التي حكمت الصين تمكنت من القضاء على معظم القراصنة.

وبالنسبة للجوانب القانونية للقرصنة فقد عالجت اتفاقية جنيف للبحار التي تم التوقيع عليها في التاسع والعشرين من إبريل عام 1958، موضوع القرصنة، معرفة "جريمة لصوصية البحر" بأنها تنطوي على الأفعال الآتية:

1 ـ أي عمل غير شرعي من أعمال العنف أو احتجاز الأشخاص أو السلب يرتكب لأغراض خاصة ويقوم به طاقم أو ركاب سفينة خاصة أو طائرة خاصة موجهاً ضد سفينة أو طائرة أخرى، أو ضد أشخاص أو أموال على متنها في البحار العالية، وكذلك ضد سفينة أو طائرة أو أشخاص أو أموال في أي مكان آخر خارج الولاية الإقليمية لأية دولة من الدول.

2 ـ أي مشاركة إرادية في إدارة سفينة أو طائرة مع العلم بأن السفينة أو الطائرة تمارس أعمال لصوصية البحر.
  
3 ـ أي تحريض أو تسهيل عمدي لفعل من الأفعال المذكورة في الفقرتين الأولى والثانية من هذه المادة.

ودعت الاتفاقية عبر المادة الرابعة عشرة منها جميع الدول أن "تتعاون إلى أقصى حد ممكن لقمع أعمال اللصوصية في أعالي البحار أو في مكان آخر يقع خارج نطاق الاختصاص القضائي لأية دولة". وأقرت المادة التاسعة عشرة حق كل دولة في أن تقوم بضبط أية سفينة تعمل بالقرصنة، ويجوز لها أن تقبض على القراصنة، وتستولي على الممتلكات الموجودة بها وأن تحاكمهم بعقوبات رادعة.

ثم جاءت اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار الموقعة في 30 أبريل عام 1982والتي دخلت حيز النفاذ في التاسع من ديسمبر عام 1984، لتعزز في مادتها رقم 101 ما أوردته الاتفاقية السابقة حول تعريف القرصنة، ثم تطرقت في المادة التالية إلى حالة تمرد طاقم أية سفينة أو ارتكابه عملاً من أعمال القرصنة وأجازت التدخل ضد هذه السفينة واعتبارها تمارس القرصنة.

وفي الكثير من المحطات التاريخية حاول القراصنة أن يضفوا نوعا من الإيجابية على أفعالهم، ووقع من تناولوا الظاهرة بأساليب الفن وطرائقه في فخ تصوير الظاهرة بوصفها عملا خيريا أو مبررا يتبدى فيها القراصنة رجالا طيبيين اضطرتهم ظروفهم القاسية إلى السطو على السفن وما فيها.

لكن ظلت القرصنة ظاهرة سلبية محرمة ومجرمة وأداة في يد قوى استعمارية طامعة، يتنادى المجتمع الدولي إلى محاربتها على مدار التاريخ. وعلى النقيض من الحالة الأولى قام أدباء وفنانون بتصوير هذه السلبيات، فرسموا الملامح الشريرة للقرصان، بوصفه لصا محترفا يتقوت على عذاب الآخرين وآلامهم.

وهناك مثلان واضحان في هذا المضمار، يبينان إلى حد كبير حجم ومستوى خلط القرصنة بالمقاومة في أذهان البعض. الأول يتعلق بحادثة السفينة سانتا ماريا التي استولى الضابط كولافو البرتغالي الجنسية في 23 يناير عام في عرض البحر ومعه حوالي سبعين مسلحا معلنا أنه يتبع "حركة التحرر الوطني" التي كان يتزعمها الجنرال ديلجادو الذي عارض حكم الديكتاتور البرتغالي سالازار. وقد انتهت العملية بقتل أحد حراس السفينة وجرح عدد من ملاحيها، لكن في النهاية تمت عليها وإعادتها إلى البرتغال.

والثاني هو حادثة اختطاف السفينة أكيلى لورو في السابع من أكتوبر عام 1985، على يد أربعة فلسطينيين، حينما أعلنوا أنهم سيشرعون في قتل الركاب إذا لم تستجب إسرائيل لمطالبهم وتقوم بإطلاق سراح 50 سجيناً فلسطينيا. وقد استخدمت إسرائيل عامل الوقت لزعزعة ثقة المختطفين، حينها أدركوا أنها لن تنوي الإذعان لمطالبهم فوافقوا على إطلاق السفينة شريطة العودة بأمان من القاهرة إلى تونس، التي كانت تحتضن أيامها منظمة التحرير الفلسطينية، بواسطة الخطوط الجوية اليوغسلافية. وقد تمت الاستجابة لمطلبهم، لكن قوة جوية أمريكية اعترضت طريق الطائرة اليوغسلافية وأجبرتها على الهبوط في قاعدة بحرية، وألقت القبض على من فيها. وقد كانت هذه الحادثة سببا توقيع اتفاقية روما الدولية لحماية النقل البحري الموقعة في 10مارس 1988والتي دخلت حيز النفاذ في مطلع مارس عام 1990.

ومن الضروري أن ننزع أي نوع من الخيرية عن القرصنة، وفهم الفواصل الكبيرة والحادة بينها وبين المقاومة. فالقرصنة عمل غير مشروع قانونا، ولا يمكن أن تكون كذلك، بينما المقاومة عمل مشروع، تباركه الشرائع السماوية، ويحميه القانون الدولي، وتوجبه حياة الأمم والشعوب، ويصبح أحيانا هو الخيار الأفضل والأمثل للحصول على الحقوق.

وقد حاول بعض الباحثين والمحللين والساسة أن يضفوا مشروعية ما على ما سلكه القراصنة الصوماليون بدعوى أن بعض السفن المختطفة قد دخلت إلى المياه الإقليمية للصومال، وأن هناك سفن صيد تميل إلى شواطئ هذا البلد لأنه مياهه غنية بالأسماك، وتجور على حقوق الصيادين الصوماليين، وأن القراصنة يقومون في هذا الشأن مقام الدول حين يتم اقتحام مياهها الإقليمية، نظرا لغياب الدولة الصومالية، وأن ما يفعلونه هو دفاع شرعي عن أمن بلادهم، ولا جناح عليهم في ذلك أبدا، ولا يمكن لمنصف أن يلومهم على ما يقترفونه.

لكن هذه الرؤية تفترض أن يكون القراصنة قد أعلنوا عن نية بهذا المعنى، أو أن مواقفهم التي تعقب الاستحواذ على السفن تؤكد هذا وتعبر عنه. لكن ذلك لم يحدث على الإطلاق، فالقراصنة ما إن يستولوا على سفينة معينة حتى يبدأوا في المساومة بغية الحصول على غنائم، ويديرون هذه العملية كعصابة دولية محترفة، ويتعامل معهم المجتمع الدولي على صورتهم وصيغتهم هذه، ويستعمل كل ما يتاح له من قوة للتخلص منهم، باعتبارهم شر لا بد من القضاء عليه.

إن رسم الفوارق الجلية، التي لا لبس فيها، بين فعل المقاومة وجريمة القرصنة، أمر غاية في الأهمية بالنسبة للعالم العربي على وجه الخصوص، فموقعه في منتصف العالم، جعله يشرف على الطريق الرئيسية للتجارة العالمية، وفي الوقت نفسه فإنه يموج بالجماعات والتنظيمات المسلحة التي تناوئ الأنظمة الحاكمة والكثير من الدول الغربية معا، ومن ثم فإن هناك سياق وظروف ومناخ تعزز فرص القرصنة، لاسيما إن نجح القراصنة في تحقيق أهدافهم، ووضعوا خبرتهم تحت تصرف الجماعات السياسية المسلحة.

وفي ضغطه المتواصل على الأعصاب السياسية والاقتصادية والثقافية للعالم المعاصر يصنع الغرب، قاصدا أو غير متعمد، ظواهر في أماكن شتى، متكئا على إمكانياته المادية والمعنوية الهائلة، الممتدة من الأسلحة الأكثر فتكا إلى أجهزة الإعلام الأعلى صوتا. وبرفقه دفاعه عن مصالحه الاستراتيجية استمرأ الغرب فكرة وعملية اتخاذ دول العالم الثالث حقل تجارب لنظرياته في العلوم الإنسانية، والتي أنتج آخرها ظاهرة القرصنة في صورتها الأخيرة والتي يعاني العالم بأسره منها حاليا، بعد أن مست أهم معبر مائي يربط الشرق بالغرب وهو البحر الأحمر، ومنه إلى قناة السويس، المعبر الرئيسي للتجارة الدولية.

ففي مطلع تسعينيات القرن المنصرم صكت الولايات المتحدة مصطلح "التدخل الحميد" الذي رمت منه إلى إعادة الأمن والاستقرار لربوع الصومال، لكنها قصرته على الجانب العسكري، فانتهى بفشل ذريع، تجسد في عملية انسحاب القوات الأمريكية من هناك تلبية لنداء الشعب الأمريكي نفسه الذي روعه مشهد تقاذف أقدام بعض الصبية الصوماليين لرأس جندي أمريكي مقطوع. وبعدها تفكك الصومال، وانتقل من "الدولة" إلى "الكيان الاجتماعي العشوائي" الذي يضربه العنف والضعف والفقر المدقع، حتى جاءت "المحاكم الإسلامية" فراحت تعيد تجميع أوصال الصومال، وترد إليه قوة "الضبط الاجتماعي" القاهرة، والمرجعية السياسية الحاكمة، والآليات المؤسسية التي إن كانت ضعيفة أو جنينية فهي على كل حال أفيد وأجود من الغياب التام لأي تنظيم إداري أو قانوني.

لكن من سوء طالع "المحاكم الإسلامية" هذه أن الولايات المتحدة كانت قد بدأت تفكر في تجريب نظرية جديدة أطلقت عليها "الفوضى الخلاقة" والتي نبتت في ركاب استراتيجية "مكافحة الإرهاب الدولي" وهي من تداعيات حدث 11 سبتمبر الرهيب. وما جعل واشنطن معنية بمد تصوراتها تلك إلى الصومال أن المحاكم نفسها لم تبرأ من عيوب جسيمة وارتكاب أعمال مشينة سواء ضد المجتمع الصومالي البسيط أو ضد دول الجوار الإقليمي، ناهيك عن مساندتها الملموسة للعديد من التنظيمات التي تناصب الولايات المتحدة وحلفائها العداء جهارا نهارا، وفي مطلعها "تنظيم القاعدة".

ولهذا اتسعت الحملة الأمريكية ضد "الإرهاب" لتطوي الصومال، حيث قامت واشنطن بدفع أديس أبابا إلى أن شن حرب بالوكالة لاقتلاع المحاكم الإسلامية ومطاردتها، كما سبق أن اقتلعت "حركة طالبان" من حكم أفغانستان، وأسقطت نظام صدام حسين في العراق. ورغم أن الإثيوبيين مطالبون، بوصفهم قوة احتلال، بإدارة الصومال وحماية سواحله، فإنهم تراخوا في أداء هذه المهمة، لاسيما بعد تمكن قوات المحاكم من تجميع أشلائها، ومعادوة الهجوم على العديد من المدن الصومالية لاستردادها، ومهاجمة القوات الإثيوبية ذاتها في أكثر من مكان، حتى باتت أديس أبابا تشعر بالحرج البالغ والثمن الباهظ لاحتلالها الصومال، ومن ثم تفكر في الرحيل عنه.

عند هذه النقطة عادت الصومال مرة أخرى إلى مرحلة ما قبل الدولة، حيث التشرذم الاجتماعي والتطاحن السياسي وغياب سلطة القانون، وأصبحت الأوضاع هناك تسير في اتجاهين، كلاهما يغذي الميل إلى ارتكاب الجرائم المنظمة ومنها القرصنة، الأول يرتبط بتحول أراضي الصومال إلى ساحة لتصفية بعض الصراعات الإقليمية، ومكان مثالي لنشاط العصابات الدولية، والثاني يتعلق بتحلل الشعور بوجود سلطة محلية وطنية جامعة تتجاوز الهويات والانتماءات القبلية والعشائرية والمناطقية الضيقة، واستبداله بشعور مغاير يتأسس على "الخلاص الفردي" و"الاستحلال" والتصريف اليومي للأمور، والبحث عن أي سبيل يجعل قطاعات من الصوماليين تستمر على قيد الحياة.

وزاد على ذلك أن المحاكم الإسلامية وجدت نفسها في حاجة ماسة إلى تدبير كل الركائز المادية التي تؤهلها لإخراج الإثيوبيين من أراضي الصومال، ومنها شراء السلاح، وتوفير أجور المرتزقة، واستمالة بعض وجهاء العشائر ومشايخ التيارات الدينية التقليدية. ومن ثم فقد استمرأت حجة تقوم على أنه ليس هناك ما يمنع من أن تستغل المحاكم ظاهرة القرصنة في تحقيق مكاسب مادية لها، سواء باقتسام الغنيمة مع القراصنة، أو بالتصدي لهم نظير مقابل تدفعه القوى الدولية التي تمتلك سفنا تسير في المحيط الهندي وتسلك قناة السويس في طريقها إلى أوروبا الغربية والأمريكيتين.

وقد أدى استفحال ظاهرة القرصنة الصومالية إلى تفكير الدول الكبرى في أمرين، الأول بدأت في تنفيذه في الفعل، ويتعلق بتسيير هذه الدول سفنها الحربية إلى خليج عدن لحماية تجارتها من القراصنة. والثاني يرتبط بالسعي إلى تدويل البحر الأحمر.

وهذا التفكير مرده إلى اعتقاد هذه الدول في أن القراصنة الصوماليين والإريتريين يشكلون خطرا حقيقيا على مصالح الدول الصناعية الكبرى، بعد أن وصل عددهم إلى ما يربو على 1100 رجل، يستخدمون زوارق سريعة جدا، تنطلق من سفن، ويتسلحون بالرشاشات وقاذفات للقنابل اليدوية، وهناك من يعتقد أن بحوزتهم قاذفات صواريخ، وأنظمة دفاع جوي محمولة على الأكتاف وهم يستعملون أجهزة متطورة تعينهم على التعمق بعيدا في مياه خليج عدن وتحديد أماكن السفن التي ينوون اختطافها.

ومن المتوقع أن يؤدي الخيار الأول إلى محاولة بعض الدول الكبرى إنشاء قواعد عسكرية على أرض عربية، وهي مسألة بدأت تتكشف تدريجيا، فهاهي صحيفة "جازيتا رو" الروسية تذكر في السادس عشر من يناير المنصرم أن روسيا شرعت في إجراء مفاوضات مع اليمن لإنشاء قاعدة عسكرية بحرية للأسطول الروسي بجزيرة سوقطرة قبالة السواحل الصومالية بالمحيط الهندي لحماية السفن المدنية الروسية المرابطة في خليج عدن من القراصنة. وقد تلجأ دول كبرى أخرى، غير الولايات المتحدة الأمريكية، إلى إبرام اتفاقات مع بعض دول المنطقة لإنشاء قواعد مماثلة.

أما تدويل البحر الأحمر فهناك من يشير إلى أن ضلوع إسرائيل في ظاهرة القرصنة الصومالية، حتى تدخل دول العالم لمحاربة هذه الظاهرة، فيترتب على تدخلها تحويل البحر من بحيرة عربية إلى بحيرة دولية، كجزء من مخطط "الشرق الأوسط الجديد" التي كان الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز قد طرحه في تسعينيات القرن المنصرم. ويستشهد هؤلاء بعدم تعرض القراصنة إلى سفن إسرائيل حتى الآن.

وبعيدا عن هذه الآثار المتوقعة هناك أثر مباشر لا يخفي على أحد، يشكل بالطبع أحد الأهداف الإسرائيلية، ويتمثل في الأضرار التي لحقت بدخل قناة السويس جراء القرصنة، وجاءت في وقت كانت فيه مصر تبذل جهدا مضنيا في سبيل رفع نسبة التجارة العابرة للقناة إلى 10% من جملة ما يتاجر به وفيه العالم بأسره، بعد أن استقرت هذه النسبة سنوات عدة عند حاجز الـ 7%. وقد كانت مصر تسعى إلى تقليص أثر الأزمة المالية العالمية على القناة بتقديم تسهيلات للسفن، نجحت في استعادة 85% من طلبات أصحابها، لتحافظ على زيادة معدلات العبور في القناة، لاسيما مع استمرار أعمال التطوير التي تروم السماح بعبور السفن العملاقة.

ولا يجب أن تقوم مواجهة هذه ظاهرة القرصنة على تجريب نظريات سياسية واستراتيجية غربية جديدة، ومنها إعادة احتلال الصومال كاملا، أو دفع أساطيل بعض الدول الكبرى إلى المياه الإقليمية لهذا البلد الصغير المفكك، أو توجيه ضربات مكثفة إلى مناطق ومواقع محددة في الصومال تتركز فيها المحاكم الإسلامية على وجه الخصوص. فمثل هذه الأساليب لا يمكنها أن تأتي بثمار طيبة، بل قد تزيد الطين بلة، وتوسع دائرة "الفوضى الهدامة" على أرض الصومال، وتجعل قطاعا عريضا من الصوماليين يفضل الانتحار في عرض البحر عن الموت جوعا ومرضا فوق الأرض القاحلة، ومن هنا تتسع دائرة القرصنة، وتجد لها جذورا اجتماعية بعد أن كانت ترتبط بالتشكيلات العصابية والإجرامية.

ويبقى الحل الأنجع في النهاية هو إعادة الدولة الصومالية إلى قيد الحياة مرة أخرى، بإيجاد سلطة مركزية ضابطة، وتوفير الدعم المادي والمعنوي لها، بما يمكنها من السيطرة الكاملة على حدود الصومال وسواحله، ويجعلها في موضع مساءلة دولية إن قصرت في أداء هذا الدور وتلك المهمة. وهذا الأمر يتطلب استبدال سياسة المواجهة والحسم العسكري للمحاكم أو غيرها بسياسة التيسير والاحتواء، أو استعمال الخيار العسكري لخدمة هدف واحد وهو استعادة مركزية الدولة في الصومال، وهي مسألة يجب ألا تكون بعيدة عن أذهان القوى الإقليمية المتضررة من استفحال ظاهرة القرصنة وفي مقدمتها مصر والسعودية واليمن، وعليها أن تقنع القوى الدولية الساعية بكل قوتها إلى الحفاظ على تدفق النفط إليها بتبني هذا التصور، الذي يبدو أنجع وأقل كلفة من الخيارات العسكرية الانتقامية، وعليها في الوقت نفسه أن تنسق عربيا لمواجهة القراصنة.

ومن الطبيعي ألا تقف مصر صامتة إزاء هذا الوضع الذي يؤثر على أمنها القومي، من المتوقع أنها ستستخدم علاقاتها ببعض الأطراف الصومالية، وثقلها الدبلوماسي في القارة السمراء من أجل المساعدة على التوصل إلى حل ناجع لمشكلة غياب الدولة الصومالية والذي أدى إلى العديد من الآثار السلبية ومنها القرصنة.
وعلى المستوى التكتيكي فإن البحث عن حلول بعيدا عن استراتيجيات القوى الكبرى لا يعني بأي حال من الأحوال عدم الاستفادة من الأساليب والطرائق والأفكار التي أنتجها علماء وخبراء غربيون في التصدي لظاهرة القرصنة. فكل هذا يدخل في باب الحكمة والمعرفة الإنسانية الجامعة والمشتركة، التي يجب إمعان النظر فيها واستعارتها أو بعضها.

وحسب بعض الأساليب الغربية، فهناك عدة قواعد للتعامل مع القراصنة، حسبما ذكر سعيد بن علي العضاضي في دراسته " الناقلة المختطفة .. 5 بدائل للدراسة والتقييم"، يمكن ذكرها على النحو التالي:

1 ـ استغلال ضغوط الوقت: إذ إن الوقت هو الحد الفاصل والقاطع الذي يضغط على أعصاب القراصنة وعقولهم وعواطفهم، فكلما مر من دون الاستجابة لمطالبهم وابتزازهم التي غالبا ما تكون مادية، يجدوا أنفسهم مضطرين إما إلى تقليل مطالبهم تدريجيا، أو ارتكاب أخطاء قد تؤدي إلى القبض عليهم ومحاسبتهم. وقد تتلاشى هذه المطالب ولا يجد القرصان بدا من الجنوح إلى الصلح أو إعلان الاستسلام.

2 ـ استعمال طرائق فض الصراعات: ويستعان في هذا المضمار بما طوره مركز شرطة نيويورك بواسطة فرانك بولز في معرض سعيه إلى وضع حلول منطقية لمواجهة الأزمات الخاصة بالمحتجزين. وقد تحول هذا البرنامج إلى نموذج يحتذى به في كل مراكز الشرطة في جميع الولايات الأمريكية، بعد أن أثبت فاعليته وجدارته في المحافظة على سلامة المحتجزين وإنهاء الأزمات بسلام. وينطوي هذا النموذج على خمسة بدائل هي:
أ ـ الهجوم مع قليل من التفاوض، وقد استخدمت هذه الوسيلة في أحداث حصار السجن في ولاية أتيكا عام 1971، وفي حادثة احتجاز الرهائن في مدينة الألعاب الأولمبية في ميونخ 1972، إلا أن النتائج كانت مفجعة، ويبدو أنها لم تكن الوسيلة المناسبة لمواجهة هذين الحدثين الجللين.
ب ـ متابعة الموقف عن كثب لمعرفة ما ستؤول إليه الأمور، فإذا لم تكن هناك أحداث مؤسفة متوقعة، فيفضل التريث للإلمام بتطورات الموقف وتلاحقه.
ج ـ التفاوض الجاد من دون تقديم تنازلات، قياسا على المقولة التي أطلقها الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان: "لن نتفاوض مع الإرهابيين". وهذه الأداة عادة ما تلقى قبولا جماهيريا، إلا أنها توصف بالجمود ولا تحدث أي تقدم يذكر في إنهاء الصراع.
د ـ خداع الطرف الآخر وقت التفاوض معه بإيهامه أن هناك تنازلات معينة. وهذا نوع من التكتيك لا يحقق مكسبا على المدى القصير، بل قد يتسبب في خسارة على المدى الطويل، لأنه يقطع جسور الثقة بين الطرفين المتفاوضين. ولا ينصح باللجوء إلي هذا التصرف إلا في حالات نادرة، وبشكل محسوب.
هـ ـ التفاوض بإخلاص وجدية مع الاستعداد التام لتقديم تنازلات. وهنا من اللازم أن يرتب المتفاوض أفكاره بعناية، ويلتزم الهدوء، ويتوخى الأساليب الواقعية، ويبذل كل جهد مستطاع لكسب ثقة المخطفين، ويأخذ في الحسبان معالجة الأوضاع الإنسانية.