عائلات سورية خارجة من الغوطة.(أرشيف)
عائلات سورية خارجة من الغوطة.(أرشيف)
الأحد 25 مارس 2018 / 20:04

خيارات النظام الأولى زرعت بذور الكارثة السورية

سّر النظام أولى مظاهر الاحتجاج بوصفها امتداداً لما وقع في تونس، ومصر، وليبيا، بمعنى أن مصير النظام أصبح الآن في الميزان، وأن حربه على المعارضة لا علاقة لها بالسياسة فهي حرب وجود في التحليل الأول والأخير

اندلعت، في مثل هذه الأيام، قبل سبع سنوات، مظاهرات في مناطق سوريا مختلفة، احتجاجاً على تنكيل نظام آل الأسد بعدد من الصبية في درعا. وفي مثل هذه الأيام، أيضاً، زُرعت البذور الأولى لقواعد الاشتباك، بين النظام ومعارضيه. ولنفكر بكل ما نرى اليوم، من تجليات الكارثة على الأرض السورية، بوصفها الحصاد المر لخيارات نجمت عن تفسير النظام لدلالة المظاهرات حتى في يومها الأوّل، واستراتيجيته في مجابهتها والرد عليها.

فسّر النظام أولى مظاهر الاحتجاج بوصفها امتداداً لما وقع في تونس، ومصر، وليبيا، بمعنى أن مصير النظام أصبح الآن في الميزان، وأن حربه على المعارضة لا علاقة لها بالسياسة فهي حرب وجود في التحليل الأول والأخير. وعلى خلفية كهذه فسّر نجاح المتظاهرين في الإطاحة ببن علي في تونس، ومبارك في مصر، والقذافي في ليبيا، بميل هؤلاء إلى المساومة وتقديم التنازلات من ناحية، وعدم إدارة الصراع مع المتظاهرين بما يكفي من سياسة الحزم، وأدوات القوّة من ناحية ثانية.

لذا، جابه أعمال الاحتجاج الأولى بأقصى قدر ممكن من العنف، رافضاً الاعتراف بشرعية مطالب المتظاهرين من ناحية، وتقديم تنازلات يُعتد بها، بالمعنى السياسي، من ناحية ثانية. وبما أن المظاهرات امتدت لتغطي مساحات واسعة في سورية، لم يكن لدى النظام ما يكفي من أدوات القوّة لخوص معارك متصلة في أماكن مختلفة، وفي وقت واحد.

لم ينجم واقع كهذا عن نقص الموارد البشرية في الجيش السوري، وأجهزة الأمن، بل نجم عن حقيقة أن النظام لا يثق إلا بعدد محدود من الفرق العسكرية، ويخشى انشقاق العسكريين، وانقسام الجيش، في حرب أراد لها أن تكون حرباً أهلية. لذا، لجأ في المراحل الأولى إلى نقل القوات العسكرية الموثوقة من مكان إلى آخر، وعدم تثبيتها في مكان واحد، والاستعانة بقوّات غير نظامية (الشبيحة) تعمل كرديف للأجهزة الأمنية الموثوقة، أيضاً.

ولكن تصاعد حدّة المظاهرات، وظهور شروخ في بنية المؤسسة العسكرية، وانشقاق البعض، ولجوء قوى مُعارضة إلى العنف، دفع بالنظام إلى اتخاذ خطة إضافية في استراتيجية اقتصاد القوّة، وهذا ما تجلى في التسليم بسقوط المناطق الريفية في يد المعارضة، والتمركز في المراكز الحضرية. وهذا، بدوره، فرض وسوّغ استخدام أنواع جديدة من الأسلحة كالصواريخ، والطيران، المدفعية الثقيلة.

والواقع أن هذه الخيارات الاستراتيجية الناجمة عن عدم الثقة بالجيش ككل، والاستعانة بقوات غير نظامية، والتخلي عن المناطق الريفية، في بدايات المجابهة هي التي ستؤدي في وقت لاحق، بعدما تآكلت قدرة الشبيحة، والقوات العسكرية الموثوقة، كالفرقة الرابعة وغيرها، إلى الاستعانة بالجيش الروسي، والخبراء الإيرانيين، والميليشيات الأجنبية العابرة للحدود.

وتبقى مسألة أخيرة تتعلّق بانتقال الثورة السورية من طور إلى آخر حتى الاستيلاء عليها من جانب قوى متطرفة ومتعددة الولاءات، وسقوطها في درك الحرب الأهلية. فلن تتضح حقيقة تلك التحوّلات منذ اليوم الأوّل في درعا، قبل سبع سنوات، وحتى يوم الناس هذا، ما لم نضع في الاعتبار أن السقوط في درك الأهلية لم يكن ليتأتى دون تفسير النظام للمجابهة بوصفها حرب وجود، ودون محاولة نزع الصفة السياسية عن المعارضة، ووصمها بالإرهاب، حتى في طورها السلمي الأوّل.

صحيح أن قوى إقليمية ودولية انخرطت في الصراع في سورية وعليها، وأن بعضها سلّح جماعات مُعارضة، وأسهم في إنشائها وتمويلها، ولكن المسؤولية الأولى تقع على عاتق النظام الذي أقدم على مجازفة مروّعة حين أطلق سراح متطرفين وإرهابيين يقبعون في سجونه، وكان أوّل من وضع السلاح على جدول الأعمال، رافضاً الاعتراف بشرعية ومشروعية المعارضة حتى قبل ظهور الدواعش والقاعدة ومن يشبهونهم بسنوات.

وقد انطوى جانب من المجازفة على احتمال نجاح هؤلاء في الاستيلاء على المعارضة، وتهديد وجود النظام من ناحية، كما انطوى على احتمال تفريغ المعارضة من مضمونها السياسي السلمي، وطابعها الشعبي، من ناحية ثانية. وهذا ما كان.

وإذا انتابت أحد، على مدار سبع سنوات مضت، شكوك بشأن هوية وماهية الحرب التي يشنها النظام على قطاعات واسعة من شعبه، وعلى حقيقة المجازفة المُروّعة التي أقدم عليها، فليتأمل مشهد الخارجين من الغوطة الشرقية هذه الأيام. فما يزيد عن مائة ألف من السكان يغادرون بيوتهم وبلداتهم وقراهم لا حباً بالمسلحين، ولا احتماء بهم، بل بحثاً عن ملجأ آمن، وهرباً من نظام يدركون في قرارة أنفسهم أنه يعاملهم كعدو.