موسوعة تفسير الطبري (أرشيف)
موسوعة تفسير الطبري (أرشيف)
الأحد 1 أبريل 2018 / 20:16

ذكر الطبري في تاريخه

التاريخ كما يقول "وول بول" هو نوع من أنواع الروايات التاريخية التي يصدقها الناس، بينما الروايات الخيالية هي نوع من أنواع التاريخ الذي لا يصدقه الناس.

يُعتبر الطبري أبا التاريخ العربي الذي حفظ معلومات غنية من الضياع، إلا أن عمله لا يعتبر عملاً تاريخياً تاماً بالمعنى المتعارف عليه في العصور اللاحقة

عندما يخوض البعض في التاريخ الإسلامي فإنهم ينقلون كل ما يجدونه في تاريخ الطبري مؤيداً لأفكارهم المسبقة، فيكون البرهان هو "ذكر الطبري في تاريخه" و "جاء في تاريخ الطبري"، أما عندما يجدون في تاريخه ما يعارض جوهر معتقداتهم فإنهم مباشرة يشككون في عدالة الرواة الذين نقلوا ما تضيق به صدورهم، حتى ولو كانوا ينقلون ما أثلج صدورهم سابقاً.

يُعتبر الطبري أبا التاريخ العربي الذي حفظ معلومات غنية من الضياع، إلا أن عمله لا يعتبر عملاً تاريخياً تاماً بالمعنى المتعارف عليه في العصور اللاحقة، فتاريخه لا يختم الروايات بملخصات ولا خاتمة ولا محاولة لتلخيص مغزى سرد الأحداث، وهي سمة لابد أن تتوفر في أي تاريخ ناضج كما يقول "بواز شوشان" في كتابه "شعرية تاريخ الطبري"، فدور الطبري في تاريخه لا يتعدى عملية الجمع والتحرير والنقل لا التأليف والنقد والدراسة.

لا نكاد نعرف شيئاً عن الملامح الشخصية لمعظم الأشخاص المذكورين في تاريخ الطبري، رغم وجود ميل ملحوظ إلى تسجيل التفاصيل من أجل زيادة مصداقية الرواية، وأحياناً يستعرض الطبري التاريخ بعملية غائية من أجل تحقيق نبوة معينة أو مواجهة مذهب مخالف، ويغيب عامل التشويق عند الطبري ربما بسبب انشغاله بربط المتن بسلسلة الرجال، فعندما يقول إن القائد قال "سيأتيكم رأيي" فإنه يُتبع ذلك بسرد إرسال الجيوش دون سرد تفاصيل ما حصل أثناء الحدث الكبير.

ويعمد الطبري إلى استشراف المستقبل في تاريخه كما فعل في روايات مقتل الحسين عن طريق سرد تنبؤات عبدالله بن عمرو بن العاص للفرزدق، إن المستقبل الذي يقدمه من كتب التاريخ، على طريقة الطبري، هو أمر محسوم مسبقاً لأنه موجود في ذهن المؤرخ، والذي لا يبقى أمامه سوى أن يقرر الكيفية التي يكشف بها عما هو موجود أمامه، وتقبع في رؤوس رواة التاريخ الأبعاد الأخلاقية والنوايا الأيديولوجية عندما ينقلون التاريخ، فيظهر عندهم استرجاع الماضي واستشراف المستقبل والتنبؤ بالحدث بعد وقوعه والملاحظات الاستدراكية التي تخدم صنعة المؤرخ.

إن روايات التاريخ المختلفة للحدث نفسه قد تمثل المصالح المختلفة للرواة، ويكاد الطبري بنقله لها بدون تمحيص، يُضحي بالحكاية ويخرب بناءها المنطقي والسايكولوجي، فهو مثل رجل مباحث يقدم الأدلة بتفصيل تام ولكنه يفشل في تقديم تصور مكتمل للحدث تاركاً ذلك لمخيلة القارئ، فمثلاً تقدم رواية سيف بن عمر الخليفة عثمان كخليفة عادل وورع ومظلوم ولم يتورط في دمه أحدٌ من الصحابة، بينما تقدمه رواية الواقدي في نفس الكتاب، كحاكم ضعيف ارتكب العديد من الأخطاء في أواسط أيام حكمه ولم يدافع عنه أحد من الصحابة المعروفين، أما في موقعة صفين فاعتمد الطبري رواية أبي مخنف المنحازة لعلي والمناوئة لمعاوية، مع تجاهله لنسخة صالح بن كيسان الموالية لبني أمية والتي حفظها لنا البلاذري وتجاهلها الطبري.

عمل الطبري لصالح الدعاية العباسية بطريقة خفية ودقيقة، فهو ينقل أن الأمويين كانوا يخشون "فتقاً" مقدراً من جهة خراسان قبل حصول الانقلاب العباسي، وينقل الأحاديث التي تؤيد حقهم بالخلافة، ورسم صورة لجموح طموح معاوية في الحكم،مما ألّب عليه الحنابلة الذين عادوه بسبب ذلك، فكانت ردة فعلة الطبري أنه لم يذكر خبر وفاة إمامهم أحمد بن حنبل ولا الملاحقات التي حصلت في محنة خلق القرآن، وعندما راجعت سنة وفاة بن حنبل في تاريخ الطبري فرأيت أنه يذكر في وفيات سنة 241 هجرية وفاة "بقوصرة" صاحب بريد مصر متجاهلاً وفاة أحمد الأكثر منه شهرة وصيتاً، بينما ينقل ابن الأثير من الطبري نفس فقرة الوفيات مضيفاً لها وفاة "الإمام أحمد بن حنبل الشيباني الفقيه المحدث"، ثم جاء ابن كثير وأفرد لابن حنبل صفحات عديدة في فضل الرجل.

من وجهة نظري، تحمل مراجعة كتب التاريخ تساؤلات المصداقية كما تحمل متعة المعرفة، فلذلك ينبغي أن تكون خادمة للمعرفة لا أن تكون المعرفة خادمة لها.