الفيلسوف اليوناني سقراط..(أرشيف)
الفيلسوف اليوناني سقراط..(أرشيف)
الأربعاء 11 أبريل 2018 / 20:11

محاكمة سقراط

رواية أفلاطون عن سقراط، فهي مختلفة عن رواية زينوفون، فأفلاطون أكثر ألمعية من أن يروي واقع سقراط كما حدث في التاريخ

يستعرض الفيلسوف البريطاني الشهير برتراند راسل في كتابه "تاريخ الفلسفة الغربية"، سيرة سقراط الذي لا نشك أننا نعلم عنه الكثير من فرط بداهة وسطوع اسمه، لكننا مع التدقيق في ما نعلمه عنه، سنجد في حوزتنا معرفةً تقليدية، لا تتعدى أنه أُجْبِر على تَجرُّع كأس الشوكران السام، بسبب فلسفته. كان من أبناء أثينا، متوسط الدخل، ينفق وقته في مناقشات، ويُعلِّم الفلسفة للشباب، لكنه لم يكن يعلِّمهم لقاء أجر مثل السوفسطائيين، وحُكم عليه بالموت سنة 399 ق. م، وكان يبلغ من العمر السبعين ونيف. بعد ذلك تدخل سيرة سقراط في منطقة المعلومات التي لا يقين فيها. هناك تلميذان له، وهما زينوفون وأفلاطون، أفاضا في القول عنه، لكنهما اختلفا في ما روياه اختلافاً بعيداً.

فما يتألم له زينوفون أن يُتهم سقراط بعدم التقوى، وبإفساد الشباب، ويؤكد أنه على عكس ذلك، وأنه كان معروفاً بتقواه، وكان له أحسن الأثر على أولئك الذين تأثروا به. والظاهر أن آراءه كانت أبعد ما تكون عن الآراء الثورية، ولعل زينوفون قد بالغ في دفاعه عن سقراط، لأنه بهذا الدفاع لا يُعلل لنا لماذا كان مكروهاً من الناس، ولماذا أُعْدِم في النهاية. يذكر زينوفون في ذكرياته أن سقراط كان يسأل: إذا أردتُ إصلاح حذائي فمن ذا أستخدم من الناس؟ فيجيبه شاب: تستخدم حذَّاءً يا سقراط. فيقول سقراط: لكنني لا أملك حذاءً بعد. يجيب الشاب: إذا امتلكت حذاءً جديداً، وبَلِيَ من المشي، تستطيع ساعتئذ إصلاحه عند حذَّاءٍ.

أمّا رواية أفلاطون عن سقراط، فهي مختلفة عن رواية زينوفون، فأفلاطون أكثر ألمعية من أن يروي واقع سقراط كما حدث في التاريخ، فالشخص الذي يسميه أفلاطون في محاوراته بسقراط، قد يكون لسان حال أفلاطون، فلا يزعم أحد، بما فيهم أفلاطون ذاته، أن الحديث الوارد في المحاورات قد حدث بالفعل. إن شخصية سقراط كما وردت في المحاورات، شخصية متسقة الأجزاء، تثير اهتمام القارئ إلى أبعد الحدود. المحاورة التي تُعتبر عادةً مُطابقة للواقع التاريخي، هي محاورة "الدفاع"، وهذه المحاورة تزعم أنها رواية للخطبة التي ألقاها سقراط، دفاعاً عن نفسه أثناء محاكمته، لكن أفلاطون يعتمد على ذاكرته بعد وقوع الحادثة ببضعة أعوام. حضور أفلاطون محاكمة سقراط، يحد قليلاً من الاختلاق الجامح لما حدث بالفعل في المحاكمة التاريخية، لكنه أيضاً لا ينفي الثوب الأدبي الذي أسبغه أفلاطون على المحاكمة بشكل عام.

بُنيت المحاكمة على أساس أن سقراط شرير، غريب الأطوار، يبحث في دخائل الأشياء، فهو مثلاً يصرّح أنه جاهل، ويريد أن يتعلَّم من محاوره، لكن مجرى الحوار يؤدي إلى العكس من ذلك، فيبدو سقراط أعلم من محاوره. يرى برتراند راسل بعقلانيته، أن علة كراهية الناس لسقراط، ترجع إلى اتصاله بالحزب الأرستقراطي، إذ كان معظم تلاميذه من هذا الحزب، وكان بعضهم في مناصب الحكم، وكانوا كارهين للديموقراطية.

يبدأ سقراط باتهام متهميه بالفصاحة، دفاعاً عن نفسه من هذه التهمة، وهو يقول: إن الفصاحة الوحيدة التي في مقدوره هي فصاحة الحق، ولا ينبغي لهم أن يبغضوا منه إذا ما تحدث إليهم على مألوف عادته، بدل أن يُلقي خطبة معدة مزخرفة تليق بالمقام، من ألفاظ وعبارات، فهو قد تجاوز السبعين، ولم يظهر في ساحات القضاء من قبل، فلا بد لهم أن يغفروا له طريقة كلامه الخالية من فخامة الصيغ القضائية. يُكمل سقراط حديثه: بالإضافة إلى المتهمين الرسميين هناك طائفة كبيرة من متهمين غير رسميين، لم ينقطعوا منذ أن كان القضاة أطفالاً، كتف سخرية من القضاة على الطاير، عن القول بأن سقراط حكيم، مُتأمل، يخلط الظاهر بالباطن، والحق بالباطل.

كان على رأس مَنْ وجهوا التهم إلى سقراط، رجل يدعى مليتوس. تلاميذ سقراط يؤكدون أن الدافع وراء توجيه الاتهام، هو دافع شخصي، كما يؤكدون أن مليتوس هذا هو الذي دفع الشاعر الكوميدي أريستوفانيس إلى إتمام مسرحية "السحب" التي فيها تجريح بالغ لسقراط. لكن قامة أريستوفانيس في الفن المسرحي، يُصعب معها تحريض مليتوس الشخصي، كما أن مسرحية "السحب"، رغم قسوتها، فهي عمل فني كبير. والبعض قال بأن السوفسطائيين وراء لائحة الاتهام، لكن السوفسطائيين أيضاً كانوا مكروهين من عامة الناس. الرأي الراجح أن سقراط جلب على نفسه عداوة عامة الناس، لما دأب عليه من إظهار جهلهم. هناك رأي شبه فني، يقول بأن سقراط الذي عرفه التاريخ، كان يهتدي براعية مقدسة.

حدث أن سقراط كان يفكر ذات صباح في شيء ما على مرأى من الناس، وظل واقفاً إلى الظهيرة، فالتفتتْ إليه الأنظار، ولمّا جاء المساء، افترش حشد من الناس في العراء، ليروا هل يبقى سقراط واقفاً طيلة الليل، ولم يُخيِّب سقراط ظنهم، ولبث واقفاً في مكانه إلى الصباح التالي. هناك في رواية "سدهارتا"، للكاتب الألماني هيرمان هيسّه، وهي رواية سيرة ذاتية مُتَخيَّلَة لبوذا، وسدهارتا اسم له، مشهد مشابه لوقوف سقراط. دخل سدهارتا الغرفة التي كان والده فيها. جاء وراء والده، وظل واقفاً إلى أن أحس الوالد بوجوده. قال الوالد البراهمي: قل إذن ما في ذهنك. قال سدهارتا: بعد إذنك يا أبي جئت لأخبرك بأنني أرغب في مغادرة بيتك غداً للانضمام إلى الزهّاد. رفض البراهمي طلب ولده. ظل سدهارتا صامتاً واقفاً. غادر والده الغرفة. لم يتحرك سدهارتا من مكانه إلى صباح اليوم التالي.