آليات عسكرية تركية في سوريا (أرشيف)
آليات عسكرية تركية في سوريا (أرشيف)
الثلاثاء 1 مايو 2018 / 20:44

خمسة احتلالات "تتَّقي" للمحافظة على "السيادة الوطنية السورية"

لم "تتَّقِ" الولايات المتحدة في حديثها وفعلها حيال احتلالها العراق، فكانت تسمي نفسها دولة محتلة حتى تاريخ انسحابها الشكلي من بلاد الرافدين في نهاية عام 2011، دون نصر أو هزيمة، ولكن لتخفيف الكلفة المادية الباهظة لاستمرار تواجدها هناك. لكن واشنطن لا تزال هناك، وتحتفظ بقوات وقواعد عسكرية في العراق، دون شبهة أنها دولة محتلة.

استفاد المحيط العربي لسوريا من سياسة روسيا، من خلال رفع عبء استمرار دعمها للفصائل التي فشلت في الانتصار على النظام من جهة، ومن ارتفاع أسعار النفط من جهة أخرى، ما مكنها

في سوريا، عدا الاحتلال الأمريكي، والروسي، والإيراني، والإسرائيلي، والتركي، هنالك الاحتلال الأسدي المؤثر أكثر من مجموع تأثيرات هذه جميعاً. والحال أن احتلالات الفصائل المعارضة ساهمت بشكل مباشر، وغير مباشر، في مساعدة تلك الاحتلالات على أن تزرع لها جذوراً في سوريا اليوم، وربما في مستقبل البلاد أيضاً.

على الرغم من ذلك، "تتقي" الاحتلالات الخمسة، ولا تسمي نفسها كذلك، حتى وهي متناقضة وغير متفقة. فالاحتلالان الأمريكي والإسرائيلي في طرف، بينما تصطف بقية الاحتلالات إلى جانب الاحتلال الأسدي، وكلها تتدخل خدمة لمصالحها، أو أوهامها التوراتية، أو استمراراً لحرب مذهبية موغلة في الماضي.

وحدها من بين هؤلاء، تشعر "إسرائيل" بالخطر المباشر من جهة حدودها الشمالية، وتخشى من الدخول في حرب صاروخية قد تطول دون أن يتحملها المجتمع الإسرائيلي مزدوج الجنسية، فتبدأ الهجرة العكسية من هناك على عكس خطط الدولة العبرية المستقطبة للمهاجرين اليهود حتى قبل إنشائها بعقود.

في ما يتعلق بالولايات المتحدة، يبدو ظاهر انسحابها السياسي من سوريا أنه سياسة بعينها. ويستدل المروجين لذلك بقلة عديد جنودها، وعدتها، هناك، مقارنة بعدد وصل إلى مئات الآلاف في العراق، أو في أفغانستان. غير أن ذلك عوضته الولايات المتحدة بالحرب غير المباشرة، فاستخدمت اتفاقها مع الأكراد كي يكونوا منفذين لخططها ضد داعش، واكتفت بتقديم الدعم المادي والعسكري والاستخباراتي للميليشيات الكردية، إضافة إلى حماية هؤلاء من خطر الغضب التركي عليهم، في معظم أيام السنوات الماضية، ما عدا معارك الغرب القريب للفرات.

وساندت روسيا الولايات المتحدة في هذه السياسة نصف المعلنة، فدخلت في لعبة "اتقاء" المواجهة مع واشنطن عبر تركيا. والأخيرة كانت مرتاحة ومجبرة، معاً، على استئناف سياستها العسكرية ضد الأكراد، بعد أن يئست من تفهم واشنطن لضرورات أمنها القومي على حدودها الجنوبية مع سوريا.

وسط كل ذلك، لا يزال النظام الأسدي هو النظام الممثل للسوريين في الأمم المتحدة، والمنظمات الدولية، وبالتالي كانت هذه حجة روسيا للدفاع عن تدخلها في سوريا كونه جاء بطلب من "الحكومة الشرعية" في حربها على الإرهاب.

ومن حيث الشكل، يلجأ الإيراني، وميليشيا "حزب الله"، إلى الحجة ذاتها في تبرير تدخله في سوريا.

لكن من حيث الغايات، يبدو مزيج داعمي النظام الأسدي متنافراً، فالروسي يبحث عن مجد امبراطوري غابر، لكنه مغلف هذه المرة برائحة النفط والغاز، وبخطط روسية مضادة للشركات العابرة للقوميات الساعية إلى امتلاك شبكة عنكبوتية من الأنابيب في المنطقة لإمداد أوروبا بالغاز الطبيعي.

وهو الأمر الذي يلجم أوروبا عن معارضة خطط التجبر الروسي الرافضة لتمدد الاتحاد الأوروبي نحو حدود موسكو القيصرية.

مع ذلك، تمكنت روسيا في أقل من ثلاث سنوات بعد تدخلها المباشر في سوريا من انتشال أسعار النفط والغاز من حضيض كادت تصل إليه في عام 2016، بعد أن بدأ النفط يتهاوى دون ثلاثين دولاراً في بدايات عام 2016، ما أثار إعجاباً خليجياً بالتحرك الروسي، على الرغم من التحالف التاريخي بين دول الخليج العربي وواشنطن.

وللاستدراك، فمعظم دول الخليج تدخلت بشكل غير مباشر في الحرب على سوريا، الأمر الذي عزز "نظرية النظام" في حربه على الإرهاب، خاصةً أن ذلك الدعم طال فاستنزف موارد كبيرة من تلك الدول، دون أن تنتهي الحرب لمصلحة المعارضة.

إذاً، فقد استفاد المحيط العربي لسوريا من سياسة روسيا، من خلال رفع عبء استمرار دعمها للفصائل التي فشلت في الانتصار على النظام من جهة، ومن ارتفاع أسعار النفط من جهة أخرى، ما مكنها، وسيمكنها، من استرداد بعض ما دفعته من كلفة تسعير الحرب على سوريا.

أما أهداف ومقاصد هذه الاحتلالات فقد بدأت ترتسم كمناطق نفوذ، بما فيها الاحتلال الأسدي المشتق، وبما يشبه لعبة كراسي موسيقية سياسية وعسكرية، بحيث ينزاح هذا ليترك مجالاً لآخر كي يستقر لفترة محققاً أهدافه.

ويتم تبادل الأدوار في هذه المصفوفة بفاصل أيام، أو أشهر، دون أن تزيد رقعة الأرض السورية، أو تنقص، كون دول الجوار القلقة مرتاحة لذلك ما دامت حدودها محترمة، حتى لو تم اختراق هذه الحدود من فترة إلى أخرى.

حتى النظام الأسدي مرتاح للتفاهمات المكبوتة بين الاحتلالات لأرض يدَّعي ملكيتها، فلا إسرائيل تزعجه بقصفها المتكرر لقواعدها العسكرية، ولا إيران تحتاج أفضل من تعزيز حجة مجابهة إسرائيل وأمريكا في سوريا لكي تدعم مبرراتها في محاربة الشيطان الأكبر هناك.

أما العنصر المكمل في المعادلة السورية ذات المجاهيل الخمسة فيأتي من تركيا، الأطلسية تقليدياً، والدائرة في الفلك الروسي مؤخراً، والخائفة دائماً من خطر تشكل دولة كردية في جنوب شرقها، وجنوبها في سوريا. ولذلك عقدت أنقرة اتفاقات الضرورة مع روسيا، بعد أن وصلت الحرب بين الدولتين العدوتين تاريخياً إلى الحلق في نهايات عام 2015.

واليوم ما بين تركيا وروسيا اتفاق لتزويدها بمنظومة الدفاع الصاروخي "س. س - 400"، وبناء مفاعل نووي روسي لإنتاج الكهرباء، دون أن يعني ذلك أن أنقرة أصبحت في حلف روسيا، فعلاقاتها التجارية مع الاتحاد الأوروبي مستمرة، ورغبتها في امتلاك منظومة الدفاع الأمريكي الصاروخي "باتريوت" ستعزز من قوة جيشها الذي تعده استقبالاً لمئوية الجمهورية في عام 2023.