رائد السوريالية المصرية جورج حنين.(أرشيف)
رائد السوريالية المصرية جورج حنين.(أرشيف)
الأربعاء 9 مايو 2018 / 20:13

رائد السوريالية المصرية

إمبراطورية الجدران لا متناهية، وويل لمن يساومها على وجبة القرميد والجبس المتوجبة لها

يوضح ساران ألكسندريان، المؤرخ والناقد الفني الفرنسي، أهمية خرط جورج حنين (1914- 1973)، رائد السوريالية المصرية في الثلاثينيات من القرن العشرين، في الجماعة اللغوية التي ينتمي إليها، وتحديد موقعه داخل التاريخ الأدبي الفرنسي. ويرفض ساران اعتبار حنين مصرياً منفياً فقط، يستخدم بسلاسة قصوى لغة بلاد المنفى. أتقن جورج حنين عدة لغات، من بينها العربية والإيطالية والإنجليزية، لكنه كان دائماً يكتب قصائده بالفرنسية، بل واستخدمها في الظروف الأكثر صميمية، لكتابة الرسائل إلى زوجته، وفي دفتر ملاحظاته، كما استخدمها في مراسلاته مع كُتَّاب كبار أمثال اندريه جيد، وأندريه بروتون، وهنري ميشو، وهنري كاليه.

ولد جورج حنين في القاهرة في 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 1914، وكان والده الدبلوماسي صادق حنين باشا، الذي أصبح فيما بعد وزيراً في عهد الملك فؤاد الأول، ووالدته من أصل إيطالي، كان اسمها ماري زانلي قبل زواجها. وقد تلقى حنين تربية أولاد النبلاء، فعُهِد به في الثانية عشرة من عمره إلى مُدرِّس علّمه القراءة والكتابة. وفي عام 1924، حين تم تعيين والده سفيراً لمصر في مدريد، لحق به إلى مركزه في إسبانيا. هذه النشأة الكوزموبوليتانية دفعت ألكسندريان إلى وصفه بأنه رحّالة بين عالمَين، شرقي في أوروبا، وأوروبي في الشرق، يقع داخل وخارج كلا العالمَين في الوقت ذاته.

نُقل والده إلى روما عام 1926، حيث بدأ دروسه الثانوية في الليسيه شاتوبريان. وفي السادسة عشرة من عمره، ذهب ليقيم في فرنسا مع والدته، فتم إدخاله إلى معهد باستور. وفيما بعد، أثناء دراسته للقانون، انصرف لإشباع شغفه بالأدب. عاد إلى القاهرة في عام 1934، وبدأ في سن العشرين بكتابة كوميديا إسبانية بعنوان "تتمة ونهاية"، لكنه كان قد ارتبط في باريس بعدة علاقات أتاحت له أن يعبر عن نفسه فيها أيضاً. قرر جورج حنين أن يمضي وقته بين العاصمتين، مقيماً في كل منهما عدة أشهر على التوالي، ومنخرطاً فيهما في أعمال متوازية مع أصدقائه في القاهرة وباريس.

بعد إعلان الحرب العالمية الأولى، استقر حنين في القاهرة التي وصلها في أيلول (سبتمبر) 1939، حيث التقى إقبال العلايلي، الملقبة ببولا بين الأصدقاء، بسبب الاسم الصغير الذي أعطتها إياه مربيتها اليونانية. كانت بولا رفيقة نضاله ومنفاه لاحقاً. غابتْ الحرب عن كتابات جورج حنين، ولم يحظ بموافقة عائلته على علاقته ببولا تبعاً لمتطلبات بيئته القبطية. أدرك حنين، من خلال موقعه بين الشرق والغرب، بين التقليد والحضارة، طبيعة الهوية الثقافية الشائكة، وعلاقته الوجودية بالآخر.

تمتع جورج حنين بعلاقة وطيدة، وإن كانت أحياناً متذبذبة، مع أندريه بروتون، مؤسس السوريالية الحديثة، منذ التقائه به في باريس لأول مرة في أيلول (سبتمبر) 1936، إلى كتابته لرسالة موجهة إليه معلناً فيها انسحابه من الحركة السوريالية الفرنسية في تموز (يوليو) 1948، معرباً فيها عن فقدان الحركة للكثير من التجانس. عرّف بروتون السوريالية في المانيفستو الأول للسوريالية، على أنها عملية نفسية أوتوماتيكية تتم ممارستها بطريقة خالية من أي اهتمامات جمالية أو أخلاقية. إلا أن كتابات جورج حنين تمتعتْ بحساسية أخلاقية واهتمامات سياسية وأيديولوجية واضحة. يقول حنين في بداية مسيرته: إن عملاً أدبياً ليس إعلاناً انتخابياً، وهذا لا يعني أن الأدب لا علاقة له بالسياسة، فلا شيء أقل صحة من ذلك. إنما ما ينبغي قوله هو أن الأدب يحتفظ بحق التماس مع كل عناصر الحياة، إذاً مع السياسة بما هي واحد من تلك العناصر، تماماً كما الرياضة، أو الحلم، أو الصناعة. تفنيداً لتعريف بروتون، تركتْ السوريالية خلفها إرثاً سياسياً وأيديولوجياً يعد مكافئاً لإرثها الفني، إن لم يكن أكثر وضوحا وتأثيراً.ً

في إحدى أولى كتابات حنين عام 1938، معنى الحياة، يقول: إمبراطورية الجدران لا متناهية، وويل لمن يساومها على وجبة القرميد والجبس المتوجبة لها. وبهذا أعلن حنين المهمة المستحيلة التي عزم على تحقيقها، وهي محاولة تسلق تلك الجدران، بحثاً عن معنى أو هدف ورائها. كان حنين يعتقد أن العالَم الحقيقي هو الذي نخلقه بداخلنا، العالَم الذي نستخلصه من جميع العوالم الأخرى. يستيقظ جورج حنين في ليلة من ليالي باريس الدافئة، وهو يتصبب عرقاً، ينظر حوله ليرى أن غرفة نومه أصبحتْ أضيق، يدرك أن هناك جدراناً جديدة قد أُنشئتْ حوله، جدراناً سميكة من القرميد والجبس، يتثاءب طويلاً في رضوخ وتسليم، ويتساءل: ربما إمبراطورية الجدران لا متناهية، لأني أقيمها حولي باستمرار. توفي جورج حنين في باريس عام 1973 بعد صراع مع سرطان الرئة، ودفنته إقبال العلايلي في القاهرة منفّذةً وصيته.