لوحة "أسئلة غوغان" (أرشيف)
لوحة "أسئلة غوغان" (أرشيف)
الثلاثاء 15 مايو 2018 / 20:15

الرقص داخل الأغلال … محاولة للطيران

الفن لون من ألوان الحرية. والفنان إن لم يكن حراً، لن يبدع. وإن لم يكن فنه حريةً وتكسيراً للأغلال، ما كان فناً. والحرية التي أقصدها، ليست حرية اليدين والقدمين، ولا حرية القلم على الورق الأبيض. إنما أعني لوناً أعمقَ من الحرية وأبعد. "حرية الروح، وحرية العقل".

إن لم يكن الفنانُ نفسُه حُرًّا، لن يقدّمَ للعالم ما ينتصرُ لحرية الإنسان ورغد الإنسانية. حتى وإن كان الفنانُ مُكبّلاً بالسلاسل ومُقيّدًا بالأصفاد، فلن يعدمَ أن تكون روحُه حرّةً لا تطالها نِبالُ الرُّماة

إن لم يكن الفنان نفسه حُراً، لن يقدم للعالم ما ينتصر لحرية الإنسان ورغد الإنسانية. حتى وإن كان الفنان مُكبلاً بالسلاسل ومُقيداً بالأصفاد، فلن يعدمَ أن تكون روحه حرةً لا تطالها نِبال الرماة، وقلبُه مُحلّقاً لا تتصيده شِباك القناصين. وهذا يقودنا إلى فلسفة: "الرقص داخل الأغلال" Dancing in Chains، وهو مبدأ فلسفيّ طرحه الفيلسوف فريديريك نيتشه، في أحد كتبه يتناول فائدة القيود والعوائق التي يمرّ بها الفنان حتى يعطي فناً فريداً مائزاً.

 ذاك أن الفن الكبير يأتي مع المصاعب والمِحن والنوازل، وليس مع الرغد والدعة ويُسر العيش. ويتحدث نيتشه كذلك عن القيود والأغلال التي قد يصنعها الفنان لنفسه أحياناً حتى يخرج فنه ألِقاً واستثنائياً.

وكانت تلك العبارة: "الرقص داخل الأغلال" عنوانَ كتاب للباحث الأمريكي جوشوا فو دينستاغ والعنوان الفرعي هو: "الحكاية والذاكرة في النظرية السياسية".

استلهم مادة الكتاب الفكرية من إحدى لوحات غوغان العظيمة:"لوحة أسئلة غوغان" تلك اللوحة الماسة الحارقة العذبة، التي يُلقي فيها غوغان في وجه العالم ثلاثة أسئلة وجودية كبرى: "من أين جئنا، ماذا نكون، إلى أين سنذهب".

يقول جوشوا إن كتابه يتأمل تلك الأسئلة البسيطة التي كتبها عفواً فنان يائس، ولم يُلتفت إليها إلا بوصفها جزءاً من عمل فني شهير، وليس باعتبارها أسئلة وجودية كبرى تستحق التوقف عندها، فضلاً عن محاولة التفكير في إجابات عنها.
D'où venons nous?  Que sommes nous? Où allons nous

أسئلةٌ ثلاثة كتبها غوغان في ركن لوحة تصور الطبيعة الساحرة في جزيرة تاهيتي ثم قرر الانتحار. ثم صارت الأسئلةُ توقيعَه على اللوحات، التي رسمها بعدما أخفقت محاولته الانتحار. فغدت الأسئلة ميثاقاً ووصيةً أخيرة للعصر الحديث.

ويحاول كتاب جوشوا إيجاد وشيجة ورابط بين السؤال الأوسط والسؤالين الآخرين. لأن تلك الأسئلة الثلاث، كما يقول جوشوا، لم تكن الصلة بينها واضحة لدى الفلاسفة والباحثين السياسيين كما لم تكن واضحةً لدى غوغان نفسه.

إن الأمرَ يخص وعينا بالعلاقة الوثقى بين الماضي والمستقبل وبين الهوية البشرية، وبالتالي هو أمر يخص الوعي بالزمن، أو بالتاريخ، ومدى تأثيره على تكوين البنية البشرية الفكرية والسياسية، وكذلك قدرة التاريخ على صناعة المستقبل.

معظم الاتجاهات الحديثة التي حاولت الإجابة على السؤال الوجودي الأشهر "ماذا نكون؟" لم تعبأ كثيراً بمدى التصاقه بسؤالي: "أين كنا؟" و"إلى أين نحن ذاهبون؟".

هذا الكتاب إذن هو محاولة لاختبار الدور الذي تلعبه الجدلية التاريخية والسرد الحكائي في الفلسفة السياسية. وحُجته الرئيسية تؤكد أن النظرية السياسية يجب ألا تعتمد مبدأ الحقوق والواجبات التجريدية النظرية فقط، بقدر ما تجتهد أن توجه القراء إلى التأمل والتفكير، عن طريق تفعيل وعيهم التطبيقي بالزمن.

 إن الأطروحات الفلسفية لا تدخل منطقة إيمان القارئ عبر المنطق فحسب، بل عن طريق تزويد القارئ بأسانيد أكثر إقناعًا وعمليةً؛ تتكئ على الحكاية والتاريخ والدور العمليّ الذي يلعبه في بناء المستقبل.

يقول جوشوا إن إحدى النتائج الأساسية السلبية للتجريد السياسي والفلسفي، هو أننا نضع كل طاقات تفسيرنا وتراجمنا في سلة ضيقة إذا ما لجأنا إلى البحث عن الفلسفة والحجة المجردة فحسب في مقاربتنا لأي كتاب يبحث في التنظير السياسي.

في حين ستغدو قراءتنا أكثر إثماراً إذا ما احترمنا فكرة وجود جدلية تاريخية جنباً إلى جنب جوار التنظير المجرد ومتزامنا مع الحجة الفلسفية.

يبرهن الكتاب على فرضيته تلك من خلال نقد وتفنيد تراجم لثلاثة من أشهر الفلاسفة هم: هيغل، لوك، نيتشه. ورغم أن تاريخية هيغل أكثر انتشاراً وشهرةً ورسوخاً من لوك، ورغم أن الجدل حول نيشته لا يزال قائماً حتى اليوم، لكن الهدف الرئيسي من الكتاب هو تكريس فكرة أن فهم أولئك الفلاسفة سوف يكون أكثر ثراءً حين نأتي بالأطروحات التاريخية في أفكارهم إلى "أمامية المشهد" بدلاً من "خلفيته".

ويوغل جوشوا أكثر حين يقول إن الجدل التاريخي والحكاية قد طُمسَت بحمق على يد القائمين على تحليل كتابات هؤلاء الفلاسفة. ولذلك فكتابه يُعتبر ملحقًا وتتمة لكتابات هؤلاء الفلاسفة، وليس نقدًا وتفنيدًا لها؛ لأن الكتاب يختبر "البعدَ الزمني" أو بالأحرى (بُعد الوعي بالزمن) في مشروعاتهم الفكرية.

وغني عن القول إن تجميع مشروعات هيغل، لوك، نيتشه، في كتاب واحد، لا يعني أنهم ينطلقون من وجهة نظر تاريخية واحدة، أو أنهم يقدمون أطروحاتٍ تاريخيةً متشابهة، بل هم، على العكس، يطرحون حكايات وسروداً متباينة تماماً، تنطلق من أفكارهم المتباينة حول تجربة الإنسان عبر التاريخ.

ويؤكد جوشوا في كتابه أنه لا يسعى إلى طرح رؤية تاريخية بعينها، أو تغليب مصداقية رؤية فلسفية تاريخية على أخرى، بل على العكس هو ينفي بقوة هذا الاتجاه إذ أن المذهب العقلي Rationalism ينفي وجودَ مثل تلك "الأحادية".

هذا الكتاب، كما يقول جوشوا، هو فحسب سؤال حول: إلى أي مدى يساهم كلٌّ من: معرفتنا بتاريخنا (من أين جئنا)، وتوقعاتنا لمستقبلنا (إلى أين نحن ذاهبون)، في معرفة وتشكيل كينونتنا الراهنة (ماذا نكون)، وتلك أسئلة غوغان الشهيرة في لوحته.

كلّ واحد من الفلاسفة الثلاثة لديه ما يقوله بشأن الإجابة عن هذا السؤال. كلٌّ، من خلال نهجه الخاص في إعادة حكي التاريخ، لديه ما يقوله لنا حول "من نكون". ومن خلال رحلتنا هذه صوب الإجابة سوف تتجلى لنا أهمية السؤال ذاته: أي العلاقة الوثقى بين الهوية والزمن، وتلك أهمية أخرى تحسب للكتاب.

هكذا قد يقدم الرسام أطروحة فلسفية عفو الخاطر في لوحة حزينة، وقد يستلهم الفلاسفة أطروحاتهم من لوحة تشكيلية يوشك راسمها أن ينتحر. إنها جدلية الفلسفة مع الفنون. إنه دياليكتيك العالم الصغير الشاسع.