رواية "الخروج من البلاعة".(أرشيف)
رواية "الخروج من البلاعة".(أرشيف)
الإثنين 21 مايو 2018 / 21:14

الخروج من البلاّعة...حكاية شاسعة

خمسمئة صفحة تقريباً تغلي بالأحداث والحركة والفانتازيا والتفلسف «كما يسميه نائل»، لكننا رغم الانتحارات وأحداث القتل لسنا أمام ملحمة

«حرنكش» اسم التدليل الذي بقي لحورية من طفولتها، سيغلب عليها طوال رواية نائل الطوخي «خروج من البلاّعة». العنوان الفظ والاستفزازي سيتناسل على طول خمسمئة صفحة هي تقريباً حجم الرواية. نائل الطوخي الذي سبق أن بنى على ألف ليلة وليلة والحكاية الشعبية يعود في روايته الجديدة إلى زمن قريب وربما متّصل هو زمن الانتفاضة المصرية والحشود في ساحة التحرير التي شملت الجزء الأكبر من شخصيات الرواية. بيد أن المعاصرة لا تقطع نائل الطوخي عن استلهاماته الأولى، إن عالم العجيب والفنتازي ما زال يغريه حتى وإن تغيّرت القصة وتغيّر زمنها.  

تبدأ قصة حورية فالرواية هي قصتها أولاً، تبدأ بزواج لا يلبث أن ينتكس وخاصة حين تسرّ حورية «حرنكش» للزوج بأنها عاشرت قبله. أما ما يفاجئ ولا يبدو معللاً فهو انتحار الزوج الذي كان حمشاً ومحافظاً وليس بهذا المعنى انتحارياً. لن يغيّر هذا الانتحار من زواج أعقب طفلاً «محمود» في حياة حرنكش، فنحن لسنا أمام رواية بسيكولوجية. «التسطيح» لو استخدمنا مصطلحاً من الفن التشيكلي هو في الغالب صفة الشخصيات بما فيها حورية، إننا أمام صور وردود وحركات وأفعال ووقائع شبه آلية. لذا نجد حورية مع هند الفتاة السحاقية، ليست حورية سحاقية لكنها تنجذب الى التجربة، لا نعرف إذا كان ذلك جزءاً من البلاعة التي قد تكون حياة حورية وقد تكون الشارع المنتفض، وقد تكون الحياة بأسرها.

تحدث الانتفاضة وتنزل هند إلى الشارع، ليست وحدها بل حورية وهيثم، هيثم ابن الرجل الثاني الذي أحبته حورية واتفقت معه على الزواج، هيثم ابن كمال ولم يتآلف مع محمود الأصغر منه والذي كلما التقيا يعجّل إلى ضربه، هذه عقدة لا تمنع الزواج لكن قبيل أن يحدث يقتل كمال محمود ويرمي بنفسه من الأعلى منتحراً. لا نجد أسباباً كافية لهذا الانتحار، لكن عبثاً نبحث في الرواية عن أسباب، فالأشياء والأحداث هنا غير معقولة. إنها لا تتولّد من المنطق، ثمة هنا رواية حركة، إنها معبأة بها بحيث أن منظر انتحار كمال يبدو أقرب الى جزء من الصور المتحركة. يبقى هيثم ابن كمال الذي تهجس حورية بقتله، لكن حورية تهجس بقتل الجميع، إنها تهجس بقتل هند التي تموت شابة لكن مسار الرواية يدعنا نتردد، بعد موت هند ومقتل هيثم، في نسبة ذلك إلى حورية، التي تبقى مع ذلك صامتة وهي تتخيّل أنها قتلت الجميع ومنهم زوجاها وأصدقاؤها.

ابنها الذي قتله كمال لا يضيره الموت، إنه بعد ذلك مع أمه يزورها وينتقل معها ويتدخل في حياتها لكنها في محل آخر تقرر أن تزور قبره. لا يفسر نائل الطوخي ذلك. بقاء محمود حياً وميتاً في آن واحد لا يجعل منه زومبي جديداً، إنه على طرف حياة تخرج من خيال حورية التي لا تفرّق بين ما تريده وما يحدث فعلاً. محمود يبقى حياً بإرادتها لكن له حياته كلها مع ذلك، حتى حين يقرر الخروج من حياتها وتركها. إننا أمام فصل فانتازي يقع بين الحياة والموت.

عم ناجي أيضاً في طرف الرواية له أيضاً قصته، حورية تلجأ اليه، هو العسكري المتقاعد الشريف اللطيف الذي مع ذلك يحمل شرف الجيش ولا يتسامح مع أي مساس به. إنه يرعى حورية رعاية الأب ولا نلبث أن نكتشف في النهاية أنه، في شبابه، أقام علاقة مع أمها فهو صديق العائلة، وتسبب عن هذه العلاقة ولادة حورية فهو أبوها الحقيقي. لا بد أن حدثاً كهذا يتكرر في روايات عدة، إنه نوع من استرداد الهوية لكنه في رواية الطوخي استنزاف لها، بحيث أن عم ناجي بعد أن صرح لحورية بأنه والدها ذهب وأطلق النار على رأسه. وكالعادة يبدو الانتحار في رواية الطوخي مع القتل ركني الرواية، إنهما النهايات المفاجئة لكن المعتادة بحيث أن وقوعها لا يعقب شيئاً. إنهما في سهولة الحكاية ويحدثان كأنهما لا يحدثان، كأنهم فقط يرُوَيان أو يُتخيّلان، لكن مع ذلك تضل الانتحارات غير دامية تقريباً، إنها تحدث وكأنها قفزات وحركات خاطفة في فيلم صور متحركة، أو في حكاية رغم أن الانتحار غير مألوف في الحكايات، لكن نائل يضيفها وكأنها جزء من الجو الفانتازي الذي تختلط فيه الحياة بالموت. قد تكون جزءاً من البلاعة التي تظهر في رواية الطوخي فائرة عامرة تغلي، لكن الأحداث هذه كأن لم تحدث. التسطيح والحركة لا يغيبان إلا عند الكلام عن الانتفاضة المصرية. هنا رغم استمرار الأسلوب ذاته، تبدو المعالجة أقرب الى التوثيق والحكم السياسي ضد العسكر والإخوان.

خمسمئة صفحة تقريباً تغلي بالأحداث والحركة والفانتازيا والتفلسف «كما يسميه نائل»، لكننا رغم الانتحارات وأحداث القتل لسنا أمام ملحمة. الرواية أقرب إلى أن تكون مع التسطيح والحدثية والحركة حكاية ماراتونية. خمسمئة صفحة أكثر من أن تكون عادية إذ يداخلها أرشيف ومحاكمة للانتفاضة «أنتم فاشلون» ومحاكمة سياسية للعسكري والإخوان، لكن الانتفاضة ككل ما في الرواية لا تترك أثراً متصلاً. إنها تجري مع كل ما يجري في الرواية التي تتتابع «كفيلم لفلليني» صورة صورة والصور والأحداث فيها تتراكم لنجد معنى أخيراً حين تقتل الحورية عاطف، محققة هذه المرة رغبتها بالقتل، وفي السجن تربي دود القز وتخرج الفراشات كنهاية رمزية موحية، إنها الخروج من البلاّعة.