مدينة فلورنسا الإيطالية (أرشيف)
مدينة فلورنسا الإيطالية (أرشيف)
الثلاثاء 29 مايو 2018 / 21:45

سافونا يتحول إلى سافانا

صاحب صعود النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر انتشار مظاهر الترف وتقديس الجمال والتمتع بملذات الحياة ونعيمها، وحل الذوق الرفيع والإحساس المرهف محل التقشف المُمرض والأفكار الكئيبة، ونشطت الدراسات في مجال الفلسفة والموسيقى والعلوم، والتي امتدت آثارها إلى يومنا هذا.

عندما ننظر إلى واقعنا، القريب جداً من مزاج مدينة فلورنسا في ذلك الوقت، دعونا نحصي كم "سافونا" بذرنا في المجتمع وسقيناه بمياه الكراهية حتى صار "فرانكشتاين" خلقناه بأيدينا ثم أعلنا براءتنا منه؟

في هذا الجو المُفعم بالإبداع والحضارة، ظهر على الساحة الراهب "سافونا رولا" الذي كان يرى نفسه عنوان الفضيلة والتقوى في هذا العالم، فالتحق بنظام الرهبنة في فلورنسا معقل النهضة الأوروبية، والتي كان يعتبرها سافونا أكبر أسباب التدهور الأخلاقي والاجتماعي، وساءه أن يسمح حاكمها بتوفير أسباب اللهو للناس، ولم يسلم من نقده اللاذع لا أعلام عصر النهضة ولا نساؤه ولا حتى رجال الكنيسة، وعلى رأسهم البابا ألكسندر السادس، الذين اتهمهم سافونا بحب السيطرة وكنز الأموال.

أخذ سافونا ينادي بالرجوع إلى تعاليم المسيحية الحقة لتجنب الكوارث التي نزلت بالبلاد والتي كان في مقدمتها اجتياح القوات الأجنبية لإيطاليا، أخذ في البداية يمارس الدعوة السلمية عن طريق الوعظ والكتابة مستخدماً براعته البلاغية، ثم عمد إلى استخدام العنف الذي جند في سبيله مجموعة من المراهقين بعد أن أخضعهم لتدريبات عسكرية وتربوية دينية صارمة، ثم عهد لفرقة من تلاميذه بمراقبة الآداب العامة في شوارع فلورنسا ومحاصرة أماكن الفساد وحرق الكتب المخالفة أمام الناس، في الحلقة الأخيرة من حياته، استفاقت الكنيسة من سباتها واتهمته بالكفر وحكمت عليه بالإعدام وحرقت جثته أمام الناس.

عندما ننظر إلى واقعنا، القريب جداً من مزاج مدينة فلورنسا في ذلك الوقت، دعونا نحصي كم "سافونا" بذرنا في المجتمع وسقيناه بمياه الكراهية حتى صار "فرانكشتاين" خلقناه بأيدينا ثم أعلنا براءتنا منه؟ فكم من مُنشدٍ سمحنا له بالاستحواذ على قلوب الناس بالألحان والتمايل والتطاير، تحت شعار الدعوة إلى الصلاة والعبادة، ثم لما رأى مصلحته في مسرحٍ آخر هرول إليه راقصاً، وكم من واعظٍ مكناه من اعتلاء المنابر فلما فرغ من نشر الإرهاب والكراهية بين الناس صاح في تلاميذه متبرئاً، وكم من مُستشرفٍ عاث في حياته فساداً فلما أتيحت له فرصة التكفير عن خطاياه زمجر في العالم وامعتصماه أندلساً.

لا نريد أن نقطع رؤوساً ولا أن نحرق جثثاً ولا أن نتباكى على ما آلت إليه أوضاعنا، لكن نريد أن نجفف مصادر حبوب "سافونا" قبل أن تولد وتنمو وتزدهر وتتحول إلى حشائش سافانا تحجب أعيننا عن رؤية الأفق من حولنا وتخنقنا في لحظة انبهارنا بطولها ولونها، ولنلتفت إلى مستقبل حضارتنا بعيون العلماء النابغين لا بأفواه عبّاد نصوص التاريخ الفارغين.