من اليمين:  المخرج مارتن سكورسيزي والممثل ليوناردو دي كابريو. (أرشيف)
من اليمين: المخرج مارتن سكورسيزي والممثل ليوناردو دي كابريو. (أرشيف)
الأربعاء 6 يونيو 2018 / 21:10

ذئب وول ستريت

هناك مشكلة في فيلم "ذئب وول ستريت"، وهي أن حقائق الفيلم الاقتصادية عن سوق المال الأمريكي، أقوى كثيراً من سيناريو الفيلم وإخراجه

في فيلم "ذئب وول ستريت"، للمخرج مارتن سكورسيزي 2013، يقول السمسار مارك هانا للممثل ليوناردو دي كابريو الذي يلعب دور جوردن بيلفورت، وهي شخصية حقيقية، وفي أول يوم عمل لجوردن: اللعبة هي نقل المال من جيب زبونك إلى جيبك. القاعدة الأولى في وول ستريت، لا أحد يستطيع التنبؤ بصعود أو هبوط الأسهم، أو أنها ستدور حول نفسها. الأسهم غبار سحري، لا وجود له، شيء لا يُمكن لمسه، شيء غير حقيقي. نحن في وول ستريت لا نخلق أو نبني أي شيء. لذلك إذا حظيت بزبون اشترى سهماً بثمانية دولارات، وأصبح السهم ب 16 دولاراً، سيكون الزبون سعيداً، ويعتقد أنه سيأخذ ماله، ويذهب إلى منزله، لسداد ديونه. مسؤوليتك يا جوردن ألا تجعله يفعل هذا، لأن ذلك سيجعل المال حقيقياً. عليك أن تخترع فكرة، والفكرة هي سهم آخر، يُعيد المستثمر لاستثمار أرباحه مرةً ثانية، وسوف يفعل هذا في كل مرة، لأنهم مدمنون على العودة، لمزيد من الأرباح، وفي هذه الأثناء، سيظن أنه غني، وهو هكذا على الأوراق، لكن أنا مارك هانا، وأنت جوردن بيلفورت، كسمسارين، سيكون في يدينا المال الحقيقي الفعلي، الذي هو العمولة أو السمسرة.

معنى حوار مارك هانا لجوردن بيلفورت، أن أمريكا، هي منضدة قمار كبرى، وهي معنية بخراب العالَم، وأن مَنْ يتحكَّم في سوق المال، هم حفنة من النصابين والمجرمين. في كتاب "هنا والآن" رسائل: 2008- 2011، بول أوستر، جي. إم. كوتزي. ترجمة الشاعر والروائي المصري أحمد شافعي، يقول الروائي جي. إم. كوتزي عن الأزمة الاقتصادية 2008: فجأة وقع شيء ما في عالَم التمويل، صار أغلبنا أفقر مالياً، والإجابة المُقَدَّمَة لنا، هي أن أرقاماً معينة تغيَّرت. أرقام معينة كانت مرتفعة، وفجأة انخفضت. فأي شيء بالضبط ذلك الذي يُشار إليه بالأرقام المنخفضة، وهو الذي جعلنا أفقر؟ الإجابة هي مجموعة أخرى من الأرقام. الأرقام المدونة إذن رموز لأرقام أخرى، وتلك رموز لمجموعة أخرى، وهكذا دواليك.

النصيحة التالية من مارك هانا لجوردن بيلفورت، هي المخدرات والجنس، من أجل الاسترخاء، وأداء العمل بشكل جيد. هناك مشكلة في فيلم "ذئب وول ستريت"، وهي أن حقائق الفيلم الاقتصادية عن سوق المال الأمريكي، أقوى كثيراً من سيناريو الفيلم وإخراجه. أولاً السيناريو يعتمد التعليق على الصورة، بصوت ليوناردو دي كابريو، وهذا يجعل بناء المشهد في الفيلم أكثر حرية، حرية تصل إلى درجة السيولة، طالما أن الصوت يشرح دائماً الصورة، ويفسرها، ويبررها. التعليق على المشهد من خارج الصورة، سمة تقليدية في السينما الأمريكية. أغلب أفلام وودي آلان، عبارة عن تعليقات سردية من خارج الصورة. اعتماد السيناريو بشكل أساسي على التعليق من خارج الصورة، ينسف فكرة بناء الفيلم. الكلمة هنا تكون أهم من الصورة. الكلمة إذاعية، والصورة سينمائية. في سنوات الثمانينات كان هناك برنامج إذاعي مصري، يأتي بعد منتصف الليل، وكان البرنامج يُذيع فيلماً تم عرضه في صالات السينما، مع تدخل مقدم البرنامج أحياناً للتعليق على مسار الفيلم. فيلم "ذئب وول ستريت"، كان يصلح لهذا البرنامج، وقد لا يحتاج مقدم البرنامج للتدخل كثيراً، للتعليق على مسار الفيلم، وسيفقد السامع للبرنامج الإذاعي، ثلث قيمة فيلم "ذئب وول ستريت" فقط، الثلث للصورة، والثلثان للصوت.

ثانياً: يبالغ سكورسيزي إخراجياً في كثرة مشاهِد المخدرات والجنس، إلى حد الكاريكاتورية. على سبيل المثال، نعرف أن المخدرات لا سيما باهظة الثمن مثل الكوكايين، تُعَامَل بالجرامات، وكأنها جواهر ثمينة، إلا أن سكورسيزي يُعاملها في الفيلم، بالكيلو والرطل، وكأنها دقيق خبز، منثورة بكميات كبيرة في كل مشاهد الفيلم. أجسام الممثلين عند سكورسيزي خارقة في تحملها لأنواع المخدرات المختلفة، وأخيلة البورنوغرافيا تسيطر على أجواء الفيلم. ربما لأن سكورسيزي الذي لا يُدخن سيجارة في حياته الحقيقية، فهو لا يعرف الحدود الفاصلة بين الإفراط في المخدرات والجنس، وبين الوفرة المضحكة الهزلية، في المخدرات والجنس، أو عرف في بداية حياته معرفةً سطحية عالَم المخدرات والجنس. وفرة المخدرات والجنس على مدى ثلاث ساعات، وهي مدة الفيلم، الكارثية في طولها، أشبه بهستيريا.

مارتن سكورسيزي من مواليد 1942، أي أنه أخرج تحفتيه "سائق التاكسي" 1976، و"الثور الهائج" 1980، بالممثل روبرت دي نيرو، وكان سكورسيزي في الثلاثينات من عمره، أمّا فيلم "ذئب وول ستريت"، فقد انخفض تقدير سكورسيزي لقوة الممثل في بداية السبعينات من عمره، فأصبح الممثل ليوناردو دي كابريو، هو النموذج المثالي للعمل معه في أكثر من فيلم. ليوناردو دي كابريو بوجهه الطفولي، الذي لا يُناسب العنف والجنس والمخدرات. في الشيخوخة تتقزم التقديرات الفنية كثيراً لدى المخرج.

يقول إنغمار برغمان في كتابه "المصباح السحري"، وهو سيرة ذاتية: سوف أتناول قبعتي ما دام بوسعي أن أصل بيدي إليها. إن الإبداع في الشيخوخة أمر غير مضمون. المُفارَقَة الكوميدية، السوداء على الأرجح، أن برغمان كتب "المصباح السحري" عام 1987، وهو من مواليد 1918، ووفاته كانت في 2007، أي أنه كتب كلماته عن صعوبة الإبداع، وعمره كان 69 عاماً، ولم يتوقف عن الإخراج السينمائي والمسرحي إلى أن بلغ 89 عاماً، وهو عام وفاته. وأعمال برغمان الأخيرة، ضعيفة قياساً بأعماله في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، أي أن برغمان نفسه كانت قبعته في متناول يده طوال عشرين عاماً، لكنه تغافل عنها عمداً، وتغافل عن كلماته المؤثرة الحقيقية، وفضَّل بمهانة وخنوع الشيخوخة، أن يُخرج في أعمالاً لا تضاهي أعماله العظيمة مثل فيلم "برسونا" 1966، وفيلم"الصمت" 1963.

أجمل حوار في فيلم "ذئب وول ستريت"، بعد حوار السمسار مارك هانا، هو حوار جوردن بيلفورت الذي أسس شركة "ستراتون أوكمونت" للمضاربات وبيع الأسهم وشرائها. يقول جوردن لموظفيه الفشلة، الأغبياء، الذين يتعلمون على يديه لعبة المال: الآن ستكون مهمتكم استهداف الأمريكان الأغنياء. إننا نتكلم هنا عن الحيتان الضخمة، وبهذا النص. يرفع جوردن يده بالنص المنسوخ في يد كل موظف، ويتابع قوله: هذا النص سيكون رمحكم في صيد الحيتان، سوف أُعلِّم كل واحد منكم كيف يكون الكابتن "إيهاب". الإشارة إلى عمل "موبي ديك" لهيرمان ميلفيل، لا يفهمها الموظفون الأغبياء، فينظر لهم جوردن بيلفورت بإحباط، ويقول بيأس: الكتاب. عار على الأمريكي ألا يفهم استعارة فنية تتعلق برواية "موبي ديك"، لأن ميلفيل هو شكسبير الأدب الأمريكي، مع أن معظم الأمريكان لا يكملون قراءة الكتاب الصعب، ربما بما فيهم جوردن بيلفورت ومارتن سكورسيزي وسيناريست الفيلم تيرينس وينتر.