الثلاثاء 12 يونيو 2018 / 22:36

هل من الواقعية أن تكون أنانياً؟

هذا التشبث بالواقع معناه أن نتحول كلنا إلى دفاتر ملاحظات ندوّن ما يحدث على أرض الواقع ولا نصنع شيئاً يُذكر

ينبغي أن يكون شعورك جيداً على الحقيقة هذا الصباح. شعور حقيقي مستديم لا يعكره شيء. لا يمكن لإنسان ذكي أن يضع وجهاً بلاستيكياً مبتسماً على وجهه ليقنع الناس بأنه مسرور، أنت لست مضطراً لإقناعهم بأي شيء على الإطلاق. عندما ينفد وقود السيارة فيجب التوجه إلى محطة الوقود ولن يفيد السيارة أن نرسم على مؤشر الوقود ليبدو ممتلأ. هذا يبدو من الجنون بدرجة كافية بحيث أننا لا نرى من يفعله. مع أننا في الواقع، نفعل أشياء مشابهة كثيرة. بدل وضع القناع وأسهل منه، أن تقرر عبر إرادتك الحرّة أنك ستكون مبتهجاً هذا الصباح ولن يُعكر مزاجك أحد مهما حاول.

لسنا بحاجة لتزييف الواقع لتسير الأمور على ما يرام. هذه مأثرة للواقعيين القريبين من الأرض كانوا يتباهون بها كثيراً على "المثاليين والمتصوفة الحالمين الهاربين من الواقع على حد قولهم".

الواقعيون من الشجاعة بمكان بحيث لا يفرون من عالم الأشياء. لا يفرون من صخب الحياة ومسئولياتها. لكن هذا النوع من الناس يفاجؤون في نهاية حياتهم بأنها كانت "مالحة" أكثر من اللازم، ولا يدرون كيف أطاقوها أو عاشوها.

حقيقة، ما نسميه بالواقع، وهو في أغلب الحالات واقع شقي لغير المستنير، هو واقع في اللحظة، وليس شرطاً أن يكون عينه هو واقعك بعد ثلاثة أشهر. تشبث المدرسة الفكرية المسماة بالواقعية بهذا الاسم ودعواها أنها الأقرب للعلم والعقلانية ليس سوى دعوى، فنحن كلنا لا نعلم ما سيحدث بعد أشهر.

هذا التشبث بالواقع معناه أن نتحول كلنا إلى دفاتر ملاحظات ندوّن ما يحدث على أرض الواقع ولا نصنع شيئاً يُذكر. لهذا يتماهى الواقعي تماماً مع القنوات الإخبارية رغم ما تعرض له من مآسٍ وما تسببه له من أحزان وما تخلف له في جسده من أمراض.

الواقع شيء يجب أن نبدأ منه لندركه فقط، وإذا أدركناه عندها يمكننا أن نسعى لتغييره نحو الأحسن، ليس التغيير الماركسي الذي يعد بالثورات والدماء، وإنما تغيير الوعي وتوجيهه نحو السلام والجمال. الواقعية خطوة أساسية لكنها الخطوة الأولى فقط.

لا يمكن لعاقل أن يرضى بالبقاء في البؤس والفقر والمرض. لتُغير حياة المرض لا بد أن تحلم بالعافية، بل أن تشعر حقاً بالعافية. فإن كنت مريضاً، فعليك أن تشعر ببقية الحياة الباقية في جسدك فتسلط تفكيرك عليها، لا على المرض، فما تسلط عليه تفكيرك يزيد ويقوى.

هذا ينطبق على الغنى والفقر والنجاح والإخفاق، وكل مشكلة يواجها بني الإنسان، ما تسلط تركيزك عليه وتشعر به، هو ما سيكثر ويتعاظم. وخير من المال أن تسلط تفكيرك على السلام الداخلي فتبحث عنه أولا في عالمك "الجواني" حتى تجده، فإذا وجدته فلا تتركه ولا تتنازل عنه في مقابل أي إغراء، فعيشك في سلام، بعيداً عن الصخب والضجيج، نعمة لا يعادلها شيء.

كان الفيلسوف البريطاني والتر ستيس، توفي في 1967، من القلة الذين يُحسنون كتابة النثر الفلسفي، وكان يتهم التصوف بأنه ليس سوى هروب من الحياة ومن واجباتها ومسؤولياتها. ذلك أن المتصوف يركن إلى الإثارة الخاصة التي يجدها في نعيمه، فيدير ظهره للعالم، فينسى أحزانه الخاصة، ويتجاوز حالته الخاصة إلى نسيان كل احتياجات وأحزان الإنسانية، فتصبح حياته حياة أنانية بالضرورة، فيتعامل مع نعمة الوعي الصوفي كنهاية في حد ذاتها ويكتفي بها.

رغم إجلالي لهذا الفيلسوف العظيم لكن لنا أن نسأل: هل في الأنانية عيب؟ ما معنى الأنانية أصلاً؟ إنها مفردة جديدة لا تجد لها أثراً في الكتب الدينية. لقد تأملت في حال من يصف الآخرين بالأنانية، فوجدت قضيته أنه لا يريد منك أن تهتم بمصالحك ولا أن ترعى شؤون نفسك، وإنما يريد منك أنت أن ترعى مصالحه هو وأن تنشغل بمشكلاته التي ورط نفسه فيها!

 وهذا من أعجب العجب وأكثر غرابة من الصيام في رجب! ذلك أنه من حق كل إنسان أن يبدأ بمصالحه الخاصة فإذا سد كل احتياجاته فإنه وبغريزة إنسانية ضرورية فيه، سيتجه لسد احتياجات أقرب الناس إليه، ثم سينتقل منها إلى الأقرب فالأقرب حتى يفيض إحسانه على العالم، في صورة حب لكل البشر، يُظهر نفسه في الأعمال الخيرية والرحمة، ولا يكتفى بالكلام المجرد.