من التظاهرات الشعبية في العراق (أرشيف)
من التظاهرات الشعبية في العراق (أرشيف)
الإثنين 16 يوليو 2018 / 20:46

جاءكم البيان التالي

تغير كل شيء في حياتنا، وطالنا التغيير القسري أفراداً ومجتمعات.. ولم تتغير عقلية الحكم والحكومات في الجغرافيا المسماة وطناً عربياً كنا نغني ذات يوم لعزته ومنعته ووحدته.

كل شيء تقريباً تغير في حياتنا، لكن البيانات الحكومية لم تتغير وحافظت على رزانتها الباهتة واحتفظت بلغتها وبمفرداتها المضحكة، رغم أنها تكتب الآن وتوزع بحواسيب حديثة

انتقلنا من قراءة الصحيفة إلى الموقع الإلكتروني، ومن الاستماع إلى الإذاعات القليلة الملتقطة إلى مشاهدة عدد هائل من القنوات التلفزيونية الفضائية التي تعرض كل شيء وبكل اللغات، وتغير طعامنا وألفنا الوجبات السريعة المستوردة من بلاد الآخرين وصارت وجباتنا التي كانت يومية مجرد أطباق فولكلورية نتناولها في المناسبات وعندما يجتاحنا الحنين إلى المقلوبة والمنسف والكبسة.

حتى رسائلنا التي كان ورقها يحمل رائحة المرسل البعيد أو الغائب اختصرناها في كلمات قليلة في رسائل متاحة في التطبيقات الهاتفية الحديثة.

أجزم أيضاً أن أشكالنا تغيرت ليس فقط بفعل قصات الشعر الغريبة للشباب ولكن أيضاً بتغير الملابس التي طغت عليها حداثة قاسية أشعر أنها تفقدنا الهيبة.

ساهمت تقنيات العصر أيضاً في تغيير ملامحنا، فصارت وجوهنا طرية ولامعة ولم تعد ملفوحة بالشمس أو معفرة بالتراب بعد أن اختصرنا حياتنا في بيت أو مكتب أو سيارة مكيفة صيفاً ومدفأة شتاء.

كل شيء تقريباً تغير في حياتنا، لكن البيانات الحكومية لم تتغير وحافظت على رصانتها الباهتة واحتفظت بلغتها وبمفرداتها المضحكة، رغم أنها تكتب الآن وتوزع بحواسيب حديثة.

وما زالت البيانات الرسمية العربية، وخاصةً تلك الصادرة عن وزارات الداخلية تجتر توصيفات محنطة مثل "المندسين" و"خفافيش الظلام" و"العابثين بأمن الوطن" و"أعداء الديمقراطية" و"المرتبطين بأجندات خارجية"، وهي توصيفات كنا نسمعها في البيانات الرسمية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي حين كانت الحكومات تحرض الجمهور على الخارجين عن النص من الشيوعيين والقوميين، ولم نكن نتوقع أن تعيش هذه المفردات حتى يومنا هذا، وبعد أن مررنا، ولا تزال بعض بلادنا تمر بمرحلة الفوضى الخلاقة التي سماها البعض ربيعاً عربياً.

المدهش أيضاً أن هذه المفردات المضحكة لم تعد حكراً على الحكومات فقد صارت جزءاً أصيلاً من حشو بيانات المعارضة والحركات التي تدعي الثورية والتغيير، وترفع شعار حكم الدين، أو حكم الطائفة أو حكم الحزب.

ومثلها أيضاً، لا تزال مفردات ومصطلحات أخرى قيد التداول مثل "الوحدة الوطنية" و"العدالة الاجتماعية" و"حرية الرأي"، وهي توصيفات لا يكاد يخلو منها بيان حكومي أو بيان حزبي.

في الأيام الأخيرة تابعت، كغيري، ما يجري في العراق العزيز، حين هبت جموع الناس للتعبير عن رفضها لسرقة البلاد وحرمان أهلها من خيرات ترابهم، بل ومن حقهم في الحياة، بعد أن سقطت كل الرهانات الطائفية البائسة على الخير الموهوم الذي وعد به المحتلون الأمريكيون والإيرانيون أهل الرافدين.

لم تستطع الحكومة إنكار الحراك الشعبي، واعترفت بحق أهل البصرة والنجف في الخدمات المعدومة، لكنها أصدرت بياناً حذرت فيه من "المندسين" بين الجموع للعبث بأمن الوطن وتنفيذ أجندات خارجية!

افتقر البيان ليس إلى الذكاء والكياسة فقط، بل افتقد أيضاً الخجل في مخاطبة مواطنين يعرفون تماماً أن المرتبطين بأجندات خارجية هم الساسة وزعماء الطوائف الذين توجههم طهران، والقادة الحداثيون الذين صنعهم بريمر في عراق ما بعد الاحتلال.

وجاء سيل من التصريحات الحكومية التي تحث العراقيين البسطاء على الحفاظ على الوحدة الوطنية، رغم أن هذه الوحدة غير قائمة أصلاً حتى يتم الحفاظ عليها، ورغم أن المواطنين البسطاء لم يشاركوا في تقسيم البلاد في مشروع العراق الجديد الذي قسم الوطن ومقدراته بين الطوائف ورموزها، وقبل بوجود كيان سياسي غير خاضع لبغداد في كل الشمال العراقي.

بذات الطريقة تصدر البيانات الحكومية والحزبية في لبنان، وفلسطين، وليبيا، وعلينا أن نصدق أن الوطن واحد والعدالة متحققة والحريات مضمونة بقوة القانون، ولا يهددها شيء إلا جرائم "المندسين"!

وحين تؤكد البيانات أن المندسين منتشرون في كل البلاد، فإن من حقنا أن نتساءل عن سبب التقصير البائن في تأطير وتنظيم الفعل الإندساسي في اتحاد عام للمندسين العرب يعمل تحت غطاء الجامعة العربية مثل اتحادات الأطباء والمهندسين والمحامين والمعلمين والمزارعين العرب، ويكون اتحاداً قوياً يحقق الحضور العربي في المحافل الدولية ويرفع شعار "يا مندسي العرب اتحدوا".