تعبيرية (أرشيف)
تعبيرية (أرشيف)
الأحد 8 ديسمبر 2019 / 20:41

مدينة أفلاطون الفاضلة ليست فاضلة

أحد أشكال المثالية -الزائدة عن الحاجة- في أيامنا هو التنظير لمدن فاضلة لم توجد إلا في سطور الكتب، فالإنسان هو الإنسان، يستطيع التحدث عن الفضيلة وممارسة الرذيلة في نفس الوقت

حلم كثيرُ من الفلاسفة بمدينة تحكم الناس بالحكم الرشيد، كتبوا عنها ودعوا إليها وبشروا بها، حتى صارت هي النموذج المثالي الذي يريد كثيرُ من الناس أن يروا العالم كله محشوراً فيه، وإذا بالغ أحدهم في تصنع المثالية قالوا له "على رسلك، إنك لا تعيش في مدينة أفلاطون الفاضلة"، فهل فعلاً كانت المدينة الفاضلة فاضلة!؟

مدينة أفلاطون هي مدينة تحيط بها الحقول الزراعية من كل جانب، يعيش أهلها في حالة وسط بين الترف والفقر، والرخاوة والهزال. الناس في هذه المدينة سواسية فيما يملكون ولا ينالون إلا ما يحتاجون. العدل فيها يقتضي وضع الإنسان في مكانه المناسب، والذي يستلزم وجود نظام طبقي يتكون من طبقة حكماء تدير الشؤون السياسية، ثم محاربين تدير الشؤون العسكرية، وطبقة عمّال لا تحوز على كثير من الاهتمام رغم كونها طبقة أغلب الشعب.

يجنح أفلاطون في مدينته في اتجاه التطهير الجيني والعرقي الذي حمل رايته النازيون في القرن العشرين، ففي حالة إنجاب ولد مشوه أو ولد زواج غير شرعي فإنه يجب قتله مباشرة بعد الولادة، ويجب تشجيع أجمل وأقوى وأعقل الرجال على التناسل حتى يورثوا صفاتهم للجيل القادم، ولهؤلاء الرجال حق تخصيب عدد كبير من النساء، ولكل طبقة من الطبقات المذكورة سلالة خاصة، ولا يسمح بالتخالط الجنسي بين الطبقات حتى لا تختلط صفات الطبقة الدُنيا مع صفات الحكماء والمحاربين.

ألغى أفلاطون حق الزواج في طبقة الحكماء والجنود مع إعطائهم حق ممارسة الجنس الحر، فالمطلوب منهم العمل لصالح المدينة فقط دون أن تعطلهم الروابط العائلية التي تُكسب الإنسان الجُبن والتردد. انصاع إلى هذا المطلب الأفلاطوني الرهبان المسيحيون الذي هجروا الزواج تماماً، وجنود الإنكشارية -في الدولة العثمانية- الذين كانوا صبياناً من مسيحيي أوروبا، تمت تنشئتهم تنشئة صارمة بعيدة كل البعد عن مفهوم الأسرة والعائلة، مما جعلهم يقاتلون أعداءهم ببسالة ويُقدمون إقدام من لا يملك شيئاً ليخسره.

جاء بعد أفلاطون مفكرون وفلاسفة -مثل توماس مور وأندريا- تخيلوا مدناً فاضلة في زمنهم ولكنها ليست فاضلة في زمننا، وجاء الإنجليزي "ولز" الذي قسم مدينته إلى أربع طبقات: منها طبقة البلهاء الذين يقومون بالأعمال الوضيعة، وآخرها طبقة المنحطين من مجرمين ومدمنين الذين يجب قذفهم إلى جزيرة معزولة ليواصلوا ممارسة رذائلهم فيها بعيداً عن سائر الناس!

أحد أشكال المثالية -الزائدة عن الحاجة- في أيامنا هو التنظير لمدن فاضلة لم توجد إلا في سطور الكتب، فالإنسان هو الإنسان، يستطيع التحدث عن الفضيلة وممارسة الرذيلة في نفس الوقت. المدينة الفاضلة ليست بنياناً تسوده أحكام صارمة ومُسبقة، بل هي مدينتك الخاصة التي لا تنتظر من أحد أن يبنيها لك، فأساسها يأتي من داخلك، وأعمدتها تحمل قيماً إنسانية عالمية تتلاقى مع قيم بقية البشر لبناء مدينة فاضلة تخدم البشر، لا هم يخدمونها.