الإثنين 26 يونيو 2023 / 10:02

سيرة مولانا أحمد الطيب

من النادر أن يتحدث مولانا الشيخ الأكبر أحمد الطيب شيخ الأزهر عن نفسه، فقد تخلى عن "الأنا" إذ هذب النفس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولذا فهو الزاهد عن اقتدار، ومن يره جالساً بجلبابه البلدي على "دكّة" في ساحة جده الطيب بجوار شقيقه الأكبر شيخنا الشيخ محمد يدرك قيمة هذا العالِم خريج جامعة السوربون الذي وهب وقته كله للدعوة ولإصلاحٍ بين الناس، ولذا لم أستغرب حينما رأيته بالجلباب في الروضة الشريفة بين الناس.
في الشهر الماضي ذهبت إليه مساء مع أصدقائي، استقبلنا بترحاب شديد وأصر أن يقف للسلام علينا ثم أجلسني بجواره على الدكّة، يحكي عن "الكُتّاب" الذى حفظ فيه القرآن الكريم وكيف كانوا يغدون من الفجر في حضرة شيخ الكُتّاب يحفظهم ويسمّع لهم حتى بُعيد العصر؛ وبينما كان يحكي هبّ فجأة واقفاً عندما أبصر أخاه الأكبر الشيخ محمد قادماً، وقف احتراماً وتوقيراً لأخيه، ليضرب لنا المثل والقدوة،  طلب منه أخوه الجلوس بإلحاح قائلاً له: أنا حلفت ألا تقف لي، لكنه يصر على القيام لأخيه توقيراً واحتراماً، حتى يتخذ أخوه مجلسه، هكذا تكون القدوة.
تحدث مولانا عن المرأة بكل تقدير واحترام وعن ظلمها في عدم تزويجها إلا من أبناء قبيلتها عند بعض القبائل ورآه "الوأْد العصري" ثم أردف "إن كان لهؤلاء أب غير آدم فليفعلوا ذلك"، وطالب بدور المثقفين والمتعلمين ودور الجامعات في القضاء على هذه الظاهرة التي تخالف النقل والعقل.
كانت أكواب الشاي والينسون تلف على الحاضرين في الساحة والأحاديث تترى، وإذا تحدث أخوه الأكبر توقف منصتاً، أيّ أدب هذا وأية قدوة نراها ونجلس بجانبها، لقد كان الناس يسألون حوائجهم ويحلها باتصاله تليفونياً بمن يملك قرار الحل (تليفونه تليفون بأزرار صنع في القرن الماضي) ويستدعي أطراف المشكلة، ولأن الساحة لا يحكم فيها إلا بالعدل فإن الناس يلجأون إليها مرتضين مسبقاً حكمها، ويتباركون بهذه الساحة المباركة، لقد كان أبوهم شيخنا الشيخ محمد يدعو دائماً "اللهم أعطِ كُلّ سائلٍ سُؤْلَه".
تبدأ جلسات الصلح وحل المشكلات العويصة في يسر وعدل، بينما يقف أبناؤهم يخدمون زوار الساحة في ترحاب وكرم أصيل، ويأتي الطعام ليجلس مولانا الطيب وشقيقه جنباً إلى جنب المريدين وضيوف الساحة يأكلون معهم ويحادثونهم في أثناء الأكل "إن الحديثَ من القِرَى".
أهداني مولانا كتاباً صدر عن سلسلة الثقافة الإسلامية  بعنوان "من دفاتري القديمة" ضمَّنه مقتطفات من سيرته الذاتية، معتذراً في تواضع نادر عن سردها قائلا: "أبدأُ  باعتذاري للقارئِ الكريمِ عمَّا قد يبدو مِن بينِ السطور من حديثٍ عن النفسِ- تصريحاً أو تلميحاً- قد لا تهم القارئ معرفتُه، أو لا يستحق- في نظره- أن يكون محلَّ رضا وتقدي...ولدتُ في منزل بسيط، يتصل به مبنى فقير يسمّى "السَّاحةَ"، وهو أشبه بعنبر كبير يأوي إليه الفقراء والعبّاد والمنقطعون، ويلتصق به مسجد متواضع مفروش بالحصير المتخذ من نبات الحلف، وكان ملمس الحصير قاسياً يؤثر في وجوه المصلين فيخرجون وقد علق الغبار بجباههم، وارتسمت فيها تعاريج غائرة من أثر السجود على هذا الفراش. ولم تكنْ مهمة الساحة قاصرة على استضافة الغرباء وأبناء السبيل، بل كانت أشبه بساحة قضاء تعقد فيها جلسات الصلح بين العائلات المتخاصمة، وكان المحكمون- وأغلبهم أميون- يتمتعون بحُنْكة خاصة ومهارة عالية في وزن المشكلات وتقييمها، لأن كلمة واحدة غير محسوبة من أحد الفريقَين المتخاصمَين قد تشعل نيراناً لا تنطفئ إلا بالدماء".
ويمضي الدكتور أحمد الطيب سارداً ذكرياته عن ساحة جده العامرة: "وعلى مسافة كيلومتر تقريباً من موقع الساحة والمسجد، يطل من الجهة الغربية- ومن بين أحضان جبل عالٍ- معبد حتشبسوت، أو "الدير البحري" في شموخ صامت يتحدى الزمن منذ خمسمئة وثلاثة آلاف عام تقريباً، وهو معبد جنائزي شيده المهندس "سننموت" من (أبناء أرمنت) للملكة حتشبسوت.
وينفرد هذا المعبد بطراز معماري وحيد من بين سائر المعابد الفرعونية في طول مصر وعرضها، ويقع في ثلاثة طوابق، والطابق الثالث منحوت في بطن الجبل على خلاف المعابد الأخرى، فإنها تبنى وتشيد ولا تنحت في الصخر. وكان وقوع المسجد والساحة على رأس الطريق المؤدي للمعبد مغرياً لراكبي الدراجات من السائحين للاستراحة في السّاحة، وشرب الماء والشاي، والمشاركة في الطعام البسيط أحياناً، وبعضهم كان يعود ليلاً ويحضر مجالس الذكر. ومِن هؤلاء مَن دخل الإسلام متأثراً بإيحاءات غامضة انبعثت في خاطره وقلبه من هذا المكان، كما حدثني أحدهم فيما بعد".
ويحكي الشيح الطيب عن أسرته وعن بداية التحصيل العلمي "أنتمي إلى أسرة عرفت بالتدين، وعرف لها أهل القرية- والقرى المجاورة- مرجعيتها في الدين، وأيضاً في الأحداث الاجتماعية التي كانت تشغل الناس أيامئذ؛ فقد كان والدي من الشيوخ الذين أتموا تعليمهم في الأزهر القديم، وكان والده أيضاً شيخاً أزهرياً مهيباً. وكانت الظاهرة الغريبة في هذه الأسرة هي العزوف التام عن الوظائف الرسمية التي تتاح لأمثالهم ممن تخرجوا في الأزهر في ذلك الوقت... وهكذا لم يشأ الجَد بعد أن أنهى فترة المجاورة في الأزهر أن يسعى وراء الوظائف العامة، بل حزم كتبه وأمتعته وعاد إلى قريته (القرنة)- على البر الغربي من مدينة الأقصر- مكتفياً بما تدره عليه قطعة الأرض التي يمتلكها، ومفرغاً نفسه لتعليم الناس وتنويرهم ومساعدتهم على حل مشاكلهم الأسرية والاجتماعية، وملتزماً بالعبادة التي لم تكن لتفارقه ليلاً ولا نهاراً. ومن الصور المحفورة في ذاكرتي صورة هذا "الجد" الطاعن في السن وهو محمول إلى المسجد، ومسبحته تلتف حول يده النحيلة المُعْرَوْرِقةِ، والناس يزدحمون من حوله ليسمعوا منه مشورة أو فتوى في الدين.. ثم جاء دور الوالد، فحاول أن يتقدم لامتحان العالمية بعد أن تأهل لها قرابة خمسة عشر عاماً في حلقات الأزهر الشريف، إلا أن الجد أوصد الباب في وجهه بعبارة حاسمة: إن تقدّمت لامتحان العالمية، فأنا غير راضٍ عنك لا في الدنيا ولا في الآخرة!. ولم يكن أمام الوالد إلا أن يسلك نفس الطريق الذي سلكه الجد... وقد كان".
ويمضي الشيخ الدكتور أحمد الطيب متحدثاً عن تصوف آبائه وأجداده وعن الطريقة الخلوتية التي ينتمي إليها فيقول: "ومِن حسن حظي أن "التصوف" الذي تفتَّحت عليه مدارك طفولتي لم يكنْ تصوفاً نظرياً يهيم في اللامعقول، أو مِن هذا النوع الذي يروج للخوارق والكرامات، أو يعتمد على الدعاوى للتكسب والارتزاق، بل كان "تصوفاً" منضبطاً- بشكل صارم- بأحكام الشريعة شكلاً ومضموناً. وبرغم أن مكتبة "الوالد" كانت تزخر بكتب التصوف- وفي مقدمتها "إحياء علوم الدين"- إلا أن الكتب التي اضطلع بتدريسها للناس في المسجد لم تتعدّ كتب الفقه المالكي، وكتب الحديث الشريف... وكنت ألاحظ عليه تحكيم الشريعة في التصوف ووزنه بها، وكان يتصدى للدَّرْوشةِ التي تخرج على حدود الشرع، ويصفها بأنها مِن وحي الشيطان. ولمَّا تقدّمت بي السنون علمت أن الطريقة الصوفية التي اهتم- هو ووالده- بنشرها في ربوع الصعيد تشترط في شيوخها أن يكونوا من علماء الشريعة، وعرفت أن من شيوخها مَن كان شيخاً للإسلام، كالشيخ أبي المكارم محمد بن سالم الحفْنيّ (ت 1181هـ = 1768م) ويكفي أن الشيخ أحمد الدردير (ت. 1201هـ = 1786م) - الفقيه المشهور- أحد شيوخها، وهو صاحب المصنفات الفقهية التي تدرس في الأزهر وفي الجامعات الإسلامية حتى وقتنا هذا.. وقد كانت الضوابط الشرعية بمثابة تصحيح مستمر للسلوك في هذه الطريقة، بناه على أساس من القرآن والسنة النبوية، وحال بينه وبين الخروج على أوامر الشريعة ونواهيها. وقد عاصرت بنفسي أبناء هذه المدرسة في بساطتهم والتزامهم بالكسب الحلال، وتفانيهم في مساعدة الناس، إلى جانبِ العبادة والذكر، وتصفية القلب وتهذيب النفس، ورأيت بنفسي أموراً حدثت على أيدي الصالحين منهم لا يقصدون إليها، وهي من الغرابة بحيث لا يصدقها مَن لم يشاهدها، ولكن أنّى للعاقل أن يتشكك في يقين رأته عيناه وحارتْ في تفسيره كل قواعد المنطق التي حصلها في أروقة المعاهد والجامعات؟!
 استطاع بعض أصدقاء والدي أن يقنعه بأن أسلك نظام التعليم العام، وفعلاً تمَّت الترتيبات اللازمة، وشراء الزي الخاص بالمدارس، لكن والدي غيَّر رأيَه فجأة في صباح اليوم الذي بدأتْ فيه الدراسة، وبدل أن أذهب إلى المدرسة ذُهِب بي إلى مكتب تحفيظ القرآن الكريم، وكان يسمَّى "الكُتَّاب" ويسمى المحفِّظ "الخطيبَ"، لأنه كان يخطب الجمعة. وهكذا كان القرآن الكريم هو أول عناصر التكوين العقلي والنفسي في غالبية أبناء القرى في ذلك الوقت، يقضي أغلب يومه مع هذا الكتاب الكريم، فالدراسة تبدأ مبكرة مع شروق الشّمس، والبساطة الشديدة هي القاعدة أو الطابع السائد، حيث يجلس التلاميذ الصغار على الأرض، بينما يجلس "الخطيب" على "حصيرة" وإلى جواره أدواتُ التأديب التي لا تتوانى في التعامل مع أيّ تلميذ يقصر في حفظ المقرر، أو يحاول الخروج على لائحة السلوك المتعارَف عليها في "الكُتّاب".
ولا أنسى درس الوصايا الذي كان يتلى علينا في نهاية اليوم الدراسي قبل الانصراف مباشرة، وأذكر من هذه الوصايا تقبيل يدي الأم والأب، وأن أقول لهما: "نَعَمْ، حاضر"، وأن أخفض صوتي بحضرتهما، وأن أقرأ "الماضيِ"، وهو القَدْر المتراكم الذي تم حفظه من القرآن، وكان علينا أن نذهب دون إفطار لنبدأ في حفظ اللوح وتسميعه على الخطيب، وكان الاعتقاد السائد أن الحفظ قبل الإفطارِ يَثْبُتُ في الرأس ويَنْتَقشُ فيه. وبعد التسميع نؤمَرُ بمسح الألواح، وكتابة القدر الجديدِ الذي يمليه الخطيب ثم تأتي عملية "التصحيح"، وهي عملية مرعبة، لأن الخطأ في الإملاء يعرّض التلميذ للضرب على الظهر أو الأقدام، ومن المستغرب أنّ الخطيب لم يكنْ يصفع التلاميذ على وجوههم، ولعلّ هذا التقليد كان مقصوداً، أو هو أثر للحديث الشريف الذي يأمر بتجنب الوجه في الضرب للتأديبِ. وبعد التصحيح يسمح لنا بالإفطار، ثم يبدأ الحفظ والقراءة والتسميع وتعلم الهجاء وشيء من قواعد الحسابِ، ويستمر الحال هكذا إلى ما بعد الظهر. فإذا ما عاد التلميذ للمنزل وأكل واستراح قليلاً، فعليه أن يبدأ رحلة المساء مع الحفظ مرة أخرى إلى المغرب.. وقد استطاع هذا النمط من التعليم- على فقره ومحدوديته- أن يقوّم لسان الطفل منذ نعومة أظفاره في نطق الكلمات ومخارج الحروف، ويكسبه القدرة على النطق الصحيح، وهي ميزة تتميز بها الألسن التي حفظت القرآن".
هكذا يحكي الدكتور أحمد الطيب نشأته وتعليمه في تواضع الكبار وجمال البلاغة وصدق الكلمات، وللحديث بقية.