الأحد 20 أغسطس 2023 / 19:16

لماذا تملأ الإمارات العالم بالأشجار؟

لم تقتصر زيارة رئيس الدولة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان "حفظه الله" إلى أثيوبيا، على النجاحات الدبلوماسية والسياسية وتعزيز العلاقات الثنائية والشراكات التنموية، بل تضمنت جانباً مهماً لطالما حرصت عليه دولة الإمارات العربية المتحدة وقادتها، وهو الاستدامة والحفاظ على البيئة، ومواجهة التحديات المناخية.
وقد تجلّى هذا الجانب في الصور الفوتوغرافية المتداولة وفي الفيديو الذي نشره آبي أحمد رئيس وزراء أثيوبيا، للشيخ محمد بن زايد وهو يزرع شجرة، وتعليقه عبر حسابه الرسمي على منصة "إكس": "عقب الاجتماعات الثنائية وتوقيع اتفاقيات التعاون الرئيسية مع الشيخ محمد بن زايد، قمنا بزرع شتلات ضمن مشروع الإرث الأخضر مما يدل على التزامنا المتبادل بمعالجة تغير المناخ بطرق متعدّدة".


و"الإرث الأخضر" هو المشروع الذي أطلقته أثيوبيا في 2019 لزرع ملايين الأشجار وذلك لمواجهة التصحر وتوسعة غطاء أثيوبيا من الغابات. وقد أطلق آبي أحمد المرحلة الثانية من هذا المشروع في 2020.

الزراعة والحضارة

وهذه الصور للشيخ محمد بن زايد، ليست الأولى لقادة الإمارات وهم يزرعون الأشجار حول العالم، بل يبدو أن ذلك هو جزء من رسالتهم السامية لتعزيز الصداقة والسلام والتعاون بين الدول، وجزء من الاستراتيجية الوطنية لدولة الإمارات لجعل الاستدامة أولوية، وقد بدأها الأب المؤسس الشيخ زايد بن سلطان طيب الله ثراه، الذي قال: "أعطوني زراعة.. أضمن لكم حضارة"، فقد كان يدرك أهمية الزراعة للأمن الغذائي ولتأسيس حضارة يقصدها الناس من كل مكان، وحين حاججه البعض بأن هذه الأرض وفي ظل مناخها شديد الحرارة وشحّ الموارد واتساع الصحاري التي تمثل 7.8 مليون هكتار من مساحة الدولة، لا تصلح للزراعة، كان رده عليهم عملياً فحولها إلى جنة خضراء، تضرب بها الأمثال، فلا تسير في شارع بها إلا وتجد أشجاراً يانعة ووروداً تتفتح وحدائق غنّاء.

ولنا في قصائد الراحل الكبير دلالات كافية على الأهمية التي يوليها للأشجار في سياق عملية التنمية الوطنية الشاملة. فيقول مثلاً:
دارنا جنات مزروعه
بالنخل والكل يجنيها
والفواكه لي زخر نوعه
في الإمارات ونواحيها
والزهر لي فايع فوعه
راحة النفس ومناويها
دار عز وناس مرفوعة
بالجدا وكتاب باريها
خير عم الشعب وجموعه
في رخا وفي خير راعيها
فالشيخ زايد يربط بين البيئة الخضراء والزراعة، وبين الرخاء، وكأن الأولى تؤدي إلى الثاني، أو كأن العلاقة بينهما متواشجة متداخلة، ضمن نظرة أشمل إلى فكرة السعادة وما يصنع وطناً وشعباً سعيدين، فترى الراحل الكبير يقول أيضاً في واحدة من أجمل القصائد التي تتغنّى بسعادة الأوطان:
دنيا م احلى وطرها
فيها زهت لانوار
كثر الخير وشجرها
وتوفرت لَاثمار (...)
تِتفَسَّحْ في شِجرها
وورودها ولازهار
أو قوله:
يعل نوّ بانت مزونه
يسجي الظفره ويرويها
لين يزخر عشب بينونه
والغزر تسجي سواجيها
والرمل يعشب ويرعونه
والبدو تزهي مبانيها
وهذا الموقف ليس نابعاً من تفضيلات شخصية عند الشيخ زايد فحسب، بل إنها رؤية قيادية استراتيجية تتمثّل النظرة العربية الأصيلة إلى الخضرة والأشجار وترى أن البناء والتنمية لا يكونان إلا بمقاومة الجفاف والقضاء عليه، فيقول:
عل داره من المزن تشرب
غيث م المعبود يضفي به
والجفاف من البلد يذهب
والمياه تفيض في شعيبه

وقصائد الشيخ زايد وتصريحاته في هذا المقام أكثر من أن تحصى، فهي تنطلق من وعي حاد ورؤية واضحة بأهمية البيئة والمناخ وحيويتهما في بناء الأمم وفي الحفاظ على التنمية المستدامة، وهو ما ترجمه الأب المؤسس بمشاريع ومبادرات عملاقة ما زالت الإمارات تنعم بثمارها.
ومما يؤثر عنه ما رواه غريم ويلسون في كتابه "زايد رجل بنى أمة" والصادر عن المركز الوطني للوثائق والبحوث بوزارة شؤون الرئاسة، أنه أمر بتغيير مسار طريق قيد الإنشاء في مدينة العين، بعد أن لاحظ خلال زيارته المنطقة للاطلاع على المشاريع التطويرية فيها، أن الطريق يتجه مباشرة نحو واحدة من أقدم الأشجار في المنطقة. وعندما أبلغه المهندسون أنه لا يمكن تغيير المسار، أمر عندها بعمل مسربين للطريق يمران من جانبي الشجرة دون أن يمساها، ليعودا ويلتقيان في مسار واحد.
وينقل ويلسون عن الرئيس اللبناني الأسبق أمين الجميل: "كنت مع الشيخ زايد في سيارته ولم يرافقنا أحد، وعند أحد المنعطفات التفت الشيخ زايد فرأى شجرة كبيرة وارفة، وكانت مائلة على جنبها حتى لتكاد تهوي على الأرض. أوقف حكيم العرب السيارة واتصل عبر هاتف سيارته بالمسؤولين في القصر، ولم نكن بعيدين عنه، طالباً إرسال من يهتم بالشجرة ويعيدها جالسة وراكزة في مكانها".
ويُروى عنه ـ طيب الله ثراه ـ أنه كان يشرف بنفسه على زراعة النخيل وغيرها من أنواع الأشجار الأخرى، وقد أمر بزراعة شارع المطار القديم بـ600 نخلة من نوع "خلاص – لولو"، ليكون أول شارع يزرع بهذا العدد من النخيل، ثم أمر بزراعة الأشجار والورود لتمتد إلى قصر الشاطئ، وهو ما أهّل الإمارات لدخول موسوعة غينيس للأرقام القياسية في عام 2009، كأغنى دولة في العالم من حيث عدد نخيل التمر، إذ قدر حينذاك بأكثر من 40 مليون نخلة، وحالياً يزيد العدد الفعلي لأشجار النخيل في الدولة على 42 مليوناً، منها 33 مليوناً في أبوظبي وحدها.

أشجار حول العالم

وتعد هذه المأثورات، وغيرها، دليلاً على التقاليد التي رسختها الإمارات منذ تأسيسها، وحافظ عليها قادتها ونشروها وساهموا فيها بأن زرعوا بأنفسهم الأشجار في الدول التي يزورونها، فقبل شجرة إثيوبيا، زرع الشيخ محمد بن زايد الكثير من الأشجار في دول العالم، لعل أقربها إلى الذاكرة، صورته قبل نحو عام وهو يغرس شجرة القرم في حديقة غابات "نغوراه راي"، أثناء مشاركته في قمة مجموعة العشرين المنعقدة في جزيرة بالي بإندونيسيا، وذلك في إطار جهود الإمارات لمواجهة التغير المناخي.

وفي ديسمبر الماضي، واحتفاءً بواحد وخمسين عاماً من العلاقات المتميزة والمزدهرة التي تقوم على مبادئ الأخوة والصداقة والاحترام المتبادل والمنفعة المشتركة مع دول قارة أفريقيا، أهدت الإمارات 51 شجرة غاف لشركائها في القارة الأفريقية، في إطار جهودها لحماية الأصول الطبيعية وضمان استخدامها في السنوات المقبلة ومواجهة التغير المناخي والتحدي العالمي، ذلك أن زراعة شجرة الغاف والحفاظ عليها في جميع أنحاء أفريقيا خطوة نحو الاستدامة والمسؤولية البيئية.
وقبل سنوات أيضاً، تحديداً في العام 2016، وتأكيداً على الإرث الإماراتي الممتد في زراعة الأشجار، وأثناء زيارة الشيخ محمد بن زايد للهند، سقى الشجرة التي غرسها الشيخ زايد بن سلطان طيب الله ثراه، بجوار ضريح المهاتما غاندي في 1974، وزرع شجرة جديدة.

استراتيجية التشجير

والأمثلة كثيرة ولا تنتهي، وكل منها يؤكد حرص قادة دولة الإمارات على زراعة الأشجار في كل مكان، فيما يمكن أن نسميه "استراتيجية التشجير"، فما الرسالة التي يريدون إيصالها من هذا؟ وما الذي يعنيه زرع شجرة؟
من المهم قبل الإجابة عن هذا السؤال أن نتأمل نوعية الأشجار التي اختارت الإمارات أن تزرعها حول العالم، والتي تكشف عن جانب من استراتيجية الإمارات لحماية كوكب الأرض وإنقاذه، ففضلاً عن اقترانها بهوية الإمارات فالغاف تلعب دوراً مهماً في الحفاظ على توزان البيئة ومقاومة التصحر، وقد منع الشيخ زايد قطعها في كافة إمارات الدولة، كما أمر باستزراع غابات واسعة منها، وأعلنت في العام 2008 الشجرة الوطنية لدولة الإمارات، وفي العام 2019 اختيرت لتكون رمزاً للتسامح في عام التسامح في الإمارات.
أما أشجار القرم، أو "المانغروف" فتساعد في تخفيض الانبعاثات الكربونية وتسهم في التقليل من آثار الكوارث الطبيعية البحرية، وقد تعهدت الإمارات بزراعة 30 مليون شجرة بحلول عام 2030، لتضاف إلى الملايين من هذه الأشجار المنتشرة على سواحل الدولة.
ومن المهم الإشارة إلى أنه في إطار مبادرة القرم – أبوظبي، زرعت هيئة البيئة - أبوظبي مليون بذرة من القرم باستخدام طائرات من دون طيار، كجزء من المرحلة الأولى من مشروع طموح، لترسيخ مكانة الإمارة لتكون مركزاً عالمياً للبحوث والابتكار في الحفاظ على أشجار القرم لدورها في عزل الكربون، والمساهمة في تخفيف آثار التغير المناخي.


اهتمام مبكر

لقد تنبّهت الإمارات مبكراً للمخاطر التي يسببها التغير المناخي حول العالم، ووضعت الخطط والحلول ليس لنفسها فحسب، بل للعالم بأسره، ولهذا فهي لا تتوانى في حشد المجتمعات الدولية للانتباه إلى هذه المخاطر، وتقدم الحل من خلال مبادرات زراعة الأشجار التي تعد حلاً أساسياً للمشكلة العالمية.
وقد بدأت الإمارات بنفسها في هذا المجال، فعملت على زيادة الرقعة الخضراء تعزيزاً لمبادئ الاستدامة في الزراعة، التي اعتبرها الشيخ محمد بن زايد "جزءاً أصيلاً من نهج دولة الإمارات وجهودها لدعم العمل المناخي وتعزيز التكاتف والتعاون الدولي؛ سعياً لإيجاد حلول عملية لتحديات تغير المناخ".
ولم تكتف الدولة بهذا، بل تشجع وتكرم من يفعل ذلك، وكلنا نذكر إشادة رئيس الدولة بمبادرة المهندس العراقي سنان الأوسي الشخصية بزراعة الأشجار والاعتناء بها في أحد شوارع أبوظبي، تعبيراً عن محبته ومسؤوليته تجاه المجتمع، وتشجيعاً على استدامة الموارد، ولم يكتف محمد بن زايد بالإشادة، بل التقاه مؤكداً: "نقدّر مثل هذه المبادرات الخيرة التي تستحق الثناء والتكريم".


وإذا كانت الإمارات تستضيف هذا العام الدورة الثامنة والعشرين من مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (COP28)، فإن جهودها لمواجهة التغيرات المناخية، بدأت منذ عقود طويلة، فهي تحرص على زراعة أشجار المانغروف منذ تأسيسها في سبعينيات القرن العشرين، وتضم 60 مليون شجرة تنتشر حاليا في مساحة 183 كيلومتراً مربعاً، تمتص 43 ألف طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً.

مبادرات نوعية

وقد بذلت الإمارات جهوداً استثنائية، بالتعاون مع العديد من دول العالم، لحماية الأرض من أضرار التغير المناخي، عبر إجراءات ومبادرات نوعية، مثل المبادرة الاستراتيجية للحياد المناخي بحلول 2050، والتي أقرت في العام 2021 كإحدى النجاحات الكبرى في مسيرة العمل المناخي لدولة الإمارات، لتصبح أول دولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تعلن عن هدفها لتحقيق الحياد المناخي.
تسعى الإمارات لصنع مستقبل مستدام للعالم كله، ومؤتمر كوب 28 الذي سينطلق بعد نحو ثلاثة أشهر هو خطوة أساسية في طريق طويل بدأته منذ سنوات طويلة، منذ زرع الشيخ زايد أول شجرة غاف، وامتد عبر عشرات الأشجار التي زرعها الشيخ محمد بن زايد حول العالم، تأكيداً على فكرة الصداقة والسلام والاستدامة والحفاظ على الكوكب.
ما غرسه محمد بن زايد في أثيوبيا والهند وإندونيسيا، وغيرها من بلاد العالم، ليس مجرد شجرة، بل رسالة عالمية تؤكد دور الإمارات في تعزيز جهود الحد من التغير المناخي، ورسالة لشعوب العالم بأهمية الزراعة في تحقيق الاستدامة، وفرصة لتعزيز التعاون مع جميع الدول للتكاتف من أجل مستقبل أفضل.
إذا كان الشيخ زايد طيب الله ثراه، قال قبل عقود "اعطوني زراعة.. أضمن لكم الحضارة"، فإن الشيخ محمد بن زايد يسير على خطاه، ويحافظ على إرثه الراسخ في حماية البيئة والمحافظة عليها، وينقل رؤيته التنموية العظيمة إلى العالم كله، عبر زراعة الأشجار، ونشر التوعية الخضراء، ودعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة، ووضع حلول حقيقية للحد من تداعيات تغير المناخ.