غلاف الأوديسة (من المصدر)
غلاف الأوديسة (من المصدر)
الإثنين 25 ديسمبر 2023 / 16:56

قراءة نقدية لفهم عمق "الأوديسة"

بيّن الناقد والمترجم حنّا عبّود في مقدمته للأوديسة، الصادرة حديثاً بترجمته عن دار ميتافيرس برس في الشارقة، بيّن مكانتها الفنية والأخلاقية، بدأها بالفروق بينها وبين ملحمة الإلياذة، وبتعداده للفروق يحلل مكونات البنية الفنية لكل ملحمة.

وأشار إلى أسلوب كل ملحمة، وإن كان قد رأى أن أسلوب الإلياذة هو أسلوب برّي، فهو يرى أن أسلوب الأوديسة أسلوب بحري، إذ لا نجد في الأوديسة وصفاً للأنهار والأزهار والسهول والجبال والخيول والعربات والرماح والسيوف والدروع والتروس إلاّ القليل، بينما نجد الكثير والكثير جداً من هذه الأوصاف في الإلياذة، بل إن هناك وصفاً تفصيلياً للدرع الذي يصنعه الربّ الحداد هيفيستوس للبطل أخيل بناء على طلب أمه، وبالمقابل لا نجد في الإلياذة وصفاً للأمواج والأنواء البحرية ولا الغيوم السوداء والبيضاء ولا تركيزاً على مصارعة العواصف والزوابع في وسط البحار.

 

مشبعة بالحنين

ورأى عبود أنه لو أخذنا المفردات البحرية التي في الأوديسة لكانت أضعاف المفردات البحرية في الإلياذة. إن هناك جواً بحرياً خاصاً أدخلتنا فيه الأوديسة، وسيكون له تأثير كبير في الكتّاب اللاحقين يمتد من هوميروس حتى أرنست همنغواي. وضمن الفروقات التي سردها عبود بين الملحمتين أشار إلى أن القارئ في الإلياذة يجد نفسه دائماً في قراءة "متوترة"، إذ دائماً ثمة دماء ودائماً هناك ساحة حرب، والقتلى ليسوا بالعدد القليل، أما قراءة الأوديسة فإنها قراءة "مريحة" جداً لأنها مشبعة بالحنين والشوق والحب، ليس فيها ميادين قتال، ولا فيها أولئك الجرحى الذين يئنون وهم يُحمَلون إلى السفن الراسية في الشط الطروادي.

وفي نقطة ثالثة، الحرب في الإلياذة تدور بين الناس والناس، فهي حرب بشرية تعكس نوازع البشر المختلفة والمتضاربة، بينما في الأوديسة لا نجد شيئاً من هذا، فالحرب تدور بين الناس والوحوش، أو الكائنات البدائية، باستثناء المجزرة الأخيرة التي أوقعها أوديسيوس بخاطبي زوجته.

 

من الغائب إلى المتكلم

لكن رغم كل نقاط الاختلاف بين الملحمتين، يرى عبود أن نقاط الاشتراك كثيرة، منها:

1ـ هناك التزام بالإطار القصصي، ففي الإلياذة يلتزم بقصة "إيليون" أو إيليوم كما يسمي بعضهم طروداة، وكلمة "الإلياذة" تعني قصة إيليون، وهو إطار قصصي وليس إطاراً تاريخياً ولكن من خلال "غضب أخيل" يطّلع القارئ أو السامع على قصة طروادة كاملة، وفي الأوديسة يفعل هومر الشيء ذاته، فكلمة الأوديسة تعني قصة أوديسيوس، ولكنها قصة وليست سيرة ذاتية.

2ـ الأسلوب الحيادي في الوصف متوافر في الملحمتين، فدائماً يقف الشاعر هوميروس على مسافة واحدة من كل الشخصيات، فكما أنه لا ينحاز إلى أخيل أو هكتور كذلك لا ينحاز إلى أوديسيوس أو الخاطبين، بل يحاول أن يلتزم بالصدق الفني مهما أضاف تفصيلات من عنده مما يقتضيه الأسلوب الأدبي. وعلى الرغم من بطولة أخيل في "الإلياذة" وأوديسيوس في "الأوديسة" فإنه يسجل الانتقادات التي توجّه إلى هذا البطل أو ذاك.

3ـ كل الصور والمشاهد والتشبيهات التوضيحية مأخوذة من عصر البرونز وعصر الزراعة عموماً. وحتى عندما يقدم المَشاهد في قلب إيثاكا، أو في السهل الطروادي، فإنه دائماً يأتي بالتشبيهات الملتقطة من المرحلة الزراعية، على الرغم من قيام ما يسمى الدولة / المدينة.

4ـ الالتفات أسلوب هومري، فهو في الإلياذة والأوديسة يحوّل الكلام من الراوي الغائب إلى الراوي المتكلّم. ولكن هذا لا يكون إلاّ مع الشخصيات الإيجابية. أما الشخصيات السلبية فإنه لا يستخدم معها هذا الأسلوب. 5- الاستخدام الميثولوجي واحد في الملحمتين، ولكننا نلاحظ حلول هرمس في الأوديسة بدلاً من آيريس في الإلياذة، كما نلاحظ ضمور دور زيوس في الأوديسة بينما كان دوره متضخماً في الإلياذة، أما هيرا وأفروديت وأريس وبقية الآلهة فيقل ذكرها في الأوديسة. أثينا وبوسيدون هما الوحيدان اللذان يحتلان ساحة الأوديسة: أثينا تريد حمايته، وبوسيدون يريد تدميره لأنه آذى ابنه.

 

رصدٌ للنفس البشرية

أمّا ما هو جديد الأوديسة؟ كثيرة هي النقاط الجديدة التي تحدث فيها عبود الذي رأى أولاً أن الأوديسة تتقدم على الإلياذة من الناحية الأخلاقية، وإن كانت فنياً متقاربة معها، إذ أن القوانين الأخلاقية في فترة الأوديسة كانت أشد وطأة من فترة الإلياذة، فهيلين التي قبلت أن تهرب مع باريس لم تُهَن لا من قبل بريام ولا من قبل أي من أبنائه وبناته، بل عاشت حياة لاقت فيها كل تكريم وتقدير، ومن جهة أخرى استعادها زوجها مينلاوس من غير أن يوجّه إليها كلمة واحدة تزعجها، بل أعادها إلى منزلها معززة مكرّمة.

ويظهر التشدد الأخلاقي في الأوديسة في مخاطبة تليماخوس لأمه بنلوبي مرات ومرات بنبرة قاسية وكلام فيه جلافة، حتى أنه يأمرها بمغادرة قاعة الخاطبين والالتزام بغرفتها وراء نولها، كعادة النساء اليونانيات. إضافة إلى أن الجديد في الأوديسة هو تلك الرحلة الغريبة التي قام بها البطل للعالم الآخر.

زيارة العالم الآخر لم تكن من أجل معرفة المستقبل والمصير، بل من أجل أغراض خاصة جداً، فعندما هبط هرقل إلى العالم الآخر كانت أمامه مهمة محددة: في المرة الأولى القبض على كلب الجحيم سيربريوس كعمل من أعماله الإثني عشر، وفي المرة الثانية لإنقاذ صديقه تسيوس، الذي كان قد سبقه إلى الجحيم لخطف ملكته برسيفوني، فجلس على المقعد ولم يعد قادراً على النهوض إلى أن خلّصه هرقل.

إن هبوط أوديسيوس إلى العالم السفلي كان بغرض معرفة المصير، وهناك استطاع المؤلف أن يستخدم المواقف والمشاهد استخداماً متقناً، فعرض علينا كثيراً من أبطال الإغريق، كل واحد يروي مأساته. هذا الهبوط إلى العالم الآخر كان منطلقاً لفرجيل في "الإنيادة" ولدانتي في "الكوميديا الإلهية"، هذه الرحلات الخيالية في رأي عبود قدّمت للفن تراثاً لا نزال نحار في فهمه وتأويله حتى هذه الأيام. وكانت الأوديسة رائدة في هذا الخيال، بعد تلك النقاط التي حللها عبود وأظهر لنا ما تمتاز به الأوديسة، أشار إلى إن التفاعل مع أي من الملحمتين يكمن في الاتجاه الذي يسير فيه القارئ، فمن أراد العنف الدائم والمشاحنات المستمرة والبطولة والقيم الفروسية فإنه يميل إلى الإلياذة، بينما من أراد النعومة والمخملية وعمق الشوق والحنين والمكابدة من أجل العودة إلى الوطن، فإنه يميل إلى الأوديسة. ومن أراد رصد نفسية الحشد رأى في الإلياذة ملحمة مكتملة، بينما من أراد رصد النفس البشرية في علاقاتها المنزلية رأى في الأوديسة ملحمة مكتملة. إن الأوديسة قصة مكابدة في رحلة العودة إلى الوطن، وليست قصة محاربة بين فريقين كل فريق يتألف من عدة جيوش جرارة، والشخصيات في الأوديسة أبرز لأن المؤلف متابع لها في أدق تفصيلاتها، بينما لا يستطيع ذلك عندما يجد نفسه بين حشد هائل من الشخصيات، منها الحكيم ومنها البطل ومنها المهاجم ومنها المدافع.

 

استمرار تأثيرها

كما نظر عبود في تأثيرها، فرآه تأثيراً عظيماً جداً، إذ إن معظم كتّاب الإغريق اعتمدوا على ما جاء في هذه الملحمة، فهو يرى أن قلّة قليلة تحدثت عن أخيل، أو عن الحرب الطروادية، لكن كل الكتاب غرفوا من الأوديسة، لأنها تبدأ من سقوط طروادة وتروي قصة عودة كل بطل من أبطال الحرب، ويرى أن معظم المآسي اليونانية مأخوذة عن الأوديسة باستثناء ما يتعلق بإفجينيا، التي ضحى بها أبوها أغاممنون حتى تهب الريح وتبحر السفن، فأسخيلوس وسوفوكليس ويوريبدس اعتمدوا على الأوديسة التي لم يتوقف تأثيرها في أي عصر من العصور.


يشار إلى أن المترجم والناقد حنا عبود قد اعتمد في ترجمته لملحمة الأوديسة على النسخة التي حررها وترجمها الشاعر الإنكليزي ذاته الذي حرر وترجم الإلياذة "صموئيل بطلر" لأنه يعتبره من أهم من قام بهذه المهمة.