محمد عبد الكريم (أرشيفية)
محمد عبد الكريم (أرشيفية)
الإثنين 29 يناير 2024 / 16:56

محطات في حياة الموسيقي محمد عبد الكريم

"أشهد أنني عشتُ حياتي، وتمتعتُ بلذّة العزف وسماع الموسيقى وإبداعها، أنا أغنى رجل في التاريخ، لأنني ملكت قلوب الناس وعقولهم وأرواحهم، وهذا أعظم الثروات، ولسوف يذكرني الناس كلما سمعوا ألحاني، أو ذُكِرَ اسمي، أو كلما شاهدوا (غجرياً يتشيطن على بُزُقِهِ ببراعة) أنا محمد عبد الكريم أمير البزق".

تلك كانت عبارات وردت على لسان أمير البزق في السيرة القصصية التي كتبها المسرحي والباحث الراحل محمد بري العواني في كتابه "الأمير السعيد: محمد عبد الكريم" الصادر عن منشورات الطفل في الهيئة العامة السورية للكتاب، ضمن سلسلة أعلام للناشئة عام 2011، فالضالعون في الموسيقى لا يختلفون حول أهمية فنان بحجم الموسيقي السوري أمير البزق محمد عبد الكريم (1905- 1989) الذي نشهد في كل 30 من يناير (كانون الثاني) مرور ذكرى رحيله والتي تصادف هذه السنة الذكرى 35.

عرش إمارة العزف

اعتلى الفنان محمد عبد الكريم عرش إمارة العزف على آلة البزق قبل أن تُعطى له بمرسوم ملكي من الملك فيصل إثر عزفه في الكونسرفتوار في باريس بحضور الملك، فكان اللقب تحصيل حاصل وهو الذي نقل آلة البزق من الأحياء الشعبية وأفراحها القابعة في الظل إلى أهم مسارح العالم بأسلوب قل نظيره، وأبدع ألواناً وقوالب في مؤلفاته، وفق قول الموسيقي والناقد أمين رومية، لم تكن موجودة في الموسيقا العربية، وأدخل الإيقاعات الغربية، وكان سباقاً في ذلك كما أنه أدخل أسلوب الحوارية الموسيقية من خلال نقل مشاعره وأحاسيسه مباشرة إلى المستمع وأدخل أسلوباً آخر وهو التعبير الموسيقي؛ أي أن تعبر الموسيقا عن حالة تصويرية معينة ليس فقط عن الأحاسيس وإنما عن صورة يراها المستمع في خياله، كما استطاع أمير البزق، في نظر رومية، أن يسخّر التقنية الخارقة التي امتلكها في العزف في خدمة البعد التعبيري؛ حيث تنفذ نغماته إلى الوجدان فيجعلنا نسمع بوجداننا وليس بآذاننا فقط، وكانت مخيلته الإبداعية تنجح في تحقيق التوترات اللحنية في أعماله.    

سيرة في سطور

سيرة هذا العبقري كانت من حي الخضر بمدينة حمص الذي شهد ولادته فيه لأسرة غجرية التي أنشأته على العزف والغناء، إذ كانت الأسرة تتعيش من إحياء الحفلات والأعراس كعادة بعض الأسر الغجرية، تلقى تعليمه الأولي في الكتّاب ثم في الكلية الإنجيلية إلاّ أنه انقطع عن التعليم بسبب حادث سير أورثه حدبة في ظهره، كما قيل، لكن السبب الحقيقي هو قصر قامته الواضحة للعيان، ولا علاقة للحادث بوقف نموه، ولذلك بدأ يعوّض هذا النقص بالتعلّق بآلة البزق التي اتّحد بها وقال عنها " أنا لم أشاهد نفسي إلا والبزق معي"، وفي طفولته هذه، أخذ يؤدي أغاني من أعمال أم كلثوم، وبدأ يشكو من قصر زند البزق في أداء بعض النغمات، وفي يفاعته قاد العزف لفرقة محمد بخيت في مقهى الجنينة بحمص، ثم شارك في حفلة لفرقة كان فيها عازف البيانو هو الموسيقار المعروف كميل شمبير (1892- 1934 )، وقد غنى فيها عبد الكريم أغنية لأم كلثوم من ألحان القصبجي وكلمات أحمد رامي، أمّا عبقرية أمير البزق فقد بدأت تتجلى منذ أن بدأ يتململ من الطريقة التقليدية في العزف، إلى أن اهتدى إلى زيادة عدد الأربطة التي تُلَف على زند البزق، الذي عدّل فيه فصار أطول، وصار عدد الأربطة (38) رباطاً بدلاً من (17) رباطاً (الرباط يحدد مكان النغمة)، كما أضاف وترين (وتر مزدوج) فأصبح البزق بوترين مزدوجين، تلك هي مواصفات الآلة التي قدمها لصانع آلات موسيقية في بيروت فنفّذها له مندهشاً، وحين استلمها منه الأمير عزف عليها ببراعة مما زاد من دهشة الصانع ولم يدر أنه وجهاً لوجه مع أمير البزق الذي لم يكن قد تجاوز 30 عاماً من عمره.

محطات في حياته

في حياة أمير البزق 4 محطات أَثَرَتْ إبداعه ومسيرته الفنية، الأولى وكانت الأساسية، سافر بصحبة والدته إلى دمشق وبدأ يحصل على رزقه من العزف في مقهى النوفرة الذي ما يزال قائماً وعامراً بالرواد حتى يومنا هذا.

وفي دمشق تعرف على السياسي الوطني العضو في البرلمان مشجع الفن والمواهب فخري البارودي، فدعمه كثيراً، ومحطته الثانية الهامة كانت في بيروت إذ التقى فيها بالفنان محيي الدين بعيون ويسّر له اللقاء مجدداً مع الموسيقار كميل شمبير الذي كان يزداد إعجابه بعزف الأمير وبقدراته الفنية فعرّفه على المسرحي المصري أمين عطا الله، فاصطحبه بجولة مسرحية في أرجاء سورية ولبنان والعراق وفلسطين، كان يعزف فيها بين فصول المسرحيات، فكسب منهما -شمبير وعطا الله- أسرار العمل المسرحي وطرائق التلحين للمسرح الاستعراضي.

ثم سافر بصحبة شمبير لمصر وهي المحطة الثالثة في حياة أمير البزق، فسجل في القاهرة أسطوانات عزف على البزق لدى شركة أسطوانات أوديون، كما سجل بصوته أغاني عدة، ولعل المحطة الرابعة في مدينة يافا الفلسطينية هي الأكثر احتكاكاً بالمبدعين الموسيقيين، وانقسمت محطته لمرحلتين الأولى حين عمل في إذاعة القدس، ثم اختلف مع إدارتها فتركها عام 1938، ثم طلبوه للعمل في إذاعة الشرق الأدنى (لندن لاحقاً) وتولى فيها رئاسة القسم الموسيقي، ووضع شارتها، وفي هذه المحطة التقى بكبار الموسيقيين الفلسطينيين من أمثال يوسف بتروني وروحي الخماش ويحيى السعودي والمطرب محمد غازي، واستقطب للإذاعة كبار الموسيقيين العرب وفي مقدمتهم محمد عبد الوهاب، حليم الرومي، رياض البندك، فريد الأطرش، فتوثقت علاقته بهم، لكنه غادر فلسطين جرّاء النكبة التي أصابتها عام 1948 عائداً لسوريا، ليعزف في إذاعة دمشق التي خصصت له برنامجاً أسبوعياً والتي ما تزال تبث الشارة التي وضعها باسم " المحطة".      

إرث مميز

صحيح أن محمد عبد الكريم لم يكن يعرف كتابة النوتة الموسيقية لكنه يقرأها، وكان مولعاً بقراءة الكتب عن الموسيقى والموسيقيين، والسينمائيين أيضاً، وأبدع في مسيرته عشرات الألحان والمؤلفات الموسيقية في الكثير من المقامات والقوالب الغنائية والآلية، فترك إرثاً هائلاً ومميزاً في مكتبات الأشرطة الموسيقية في دمشق وبغداد والقاهرة ويافا، وكانت الألحان الموسيقية الغنائية بأهم الأصوات عربياً : أسمهان، سهام رفقي، سعاد محمد، صباح فخري، سلامة الأغواني، محمد عبد المطلب

ونجاح سلام التي لحّن لها أجمل أغنية صدحت بها وأعطتها شهرة تليق بقامتها الفنية وصوتها الجميل وهي أغنية " رقة حسنك وسمارك/ تقوليلي جايبا منين/ خفة دمك ده شعارك/ والمعنى في رموش العين/ يا محلى الروح يا سمره....."، وقد تعاون مع كاتبها الشاعر عبد القادر آغا على كتابتها، ومن مفرداتها تشي بأنها كتبت على طريقة الزجل المصري.

وغنتها سلام عام 1945، والتي قالت عن أمير البزق: "ظللت في سوريا حوالي 3 سنوات بعد أن تعرّفت إليه كان عبقرياً وألّف لي لحن (رقة حسنك وسمارك)، وهو الذي بنى شهرتي في سوريا وعلاقاتي مع عائلات الشام التي صارت تتخاطفني وأصبحتُ مطربة البيوت الشامية، ولم يكن يُسمح لي بالإقامة في الفنادق، بل كانوا يصرون على أن أبيت أنا ووالدي في أحد البيوت الشامية، وكانت كل البيوت بيوتنا، وفي المقابل، كنا نستقبل أي شخص من أصدقائنا السوريين في بيتنا".

وإن أعطى عبد الكريم الكثير من ألحان الأغنيات المتميزة لمطربين ومطربات عرب من أكثر من قطر عربي، إلاّ أنه أجاد أيضاً في القوالب الآلية التي ألفها والإيقاعات التي استخدمها والتي تنوعت بين السماعي واللونغا والتانغو والسيرناد والرومبا والفوكستروت، فمن بين أعماله هذه تميزت أولاً "رقصة الشيطان" التي تتطلب سرعة الحركة في العزف والتي نزعم أن لا أحداً استطاع أن يجاريه في عزفها رغم أن الكثيرين حاولوا ذلك من بعده وعلى أكثر من آلة، وكذلك مقطوعة المعركة الموسيقية، ورقصة البرابرة، بين الصنوبر، تحت العريشة، أبو العلاء المعري، رقصة العجوز، رقصة الساحرة.

أشهر عازف للبزق

كما يعدّ أمير البزق كموسيقيٍ، أبرز أعضاء نادي دوحة الميماس للموسيقى والتمثيل الذي تأسس في حمص عام 1933 لمقارعة الاستعمار الفرنسي بالفن، والذي ما يزال يمارس نشاطه الفني حتى يومنا هذا، وكان قد كرّمته إدارة النادي عام 1984، بحفل خاص ظل بقية حياته ممتناً لهذا التكريم.


وإن وصفت الفنانة الراحلة نجاح سلام أمير البزق بالعبقري، فالموسيقار محمد عبد الوهاب قال عنه: "إذا كانت الموسيقى الغربية تفتخر بـ(بأغانيني) كأشهر عازف للكمان، فالموسيقى الشرقية تفتخر بـ" محمد عبد الكريم" كأشهر عازف للبزق".

‏أمّا فريد الأطرش الذي قال فيه بعد أن استمع إليه يعزف على العود "أنت لست أمير البزق فقط، بل وأمير العود كمان".

في حين مدحه الباحث في الموسيقى د. سعد الله آغا القلعة في مؤلفه (كتاب الأغاني الثاني) خلال حديثه عن تشارك الأمير مع العازف التركي عازف آلة القانون إسماعيل تشانشلر في مناظرة فريدة، فكلٌّ منهما استغل نقاط قوة آلته، ونقاط ضعف آلة الآخر! فكان منافساً مثيراً له، وأقام حواراً مبدعاً معه لا يجيده غير الماهرين.
صحيح أن الزميل الصحفي علي حسني نجار قد سجل في كتابه "حول فراش الأمير"، الذي أصدرته وزارة الثقافة السورية عام 1997، المسيرة الفنية للأمير والتي استقاها منه وهو على فراش المرض، حيث لازمه طوال 6 أشهر في مشفى الهلال الأحمر بدمشق إلى أن رحل إلى المدى الأزرق، ومنه استقينا بعض المعلومات، لكن الإبداع الموسيقي لعبد الكريم ينتظر كتاباً يحلل أعماله ويعطيها قيمتها الفنية، من مثل: مدى مصداقية المقام الذي أبدعه "المريوما" من الناحية الموسيقية، والتحدث في مسألة أسبقيته في العمل على (التانغو والسيرناد) لبعض الموسيقيين وفي طليعتهم محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، وهل كان المقام الذي لحنت عليه هذه الأغنية أو تلك يأخذ مداه المطلوب لترسيخ جوهر المقام في أذهان السامعين (بحسب تعبير الباحث الموسيقي زياد عجان)، وكيف هو الحال مع الانتقال من مقام إلى آخر، في أعماله، هل كان يدل على براعة وأستاذية؟ إلى تفاصيل أخرى أهم وأعمق تشمل منجزه الإبداعي في المجالين الغنائي والموسيقى الآلية، بقوالبهما المتعددة، ومع أنه كان يحدونا الأمل بالكتاب الذي كان يعدّه الموسيقي حارس السريانية المرتحل الشهر الماضي نوري اسكندر في مغتربه القسري في السويد لكنه غادرنا من دون أن يشي أي خبر عن إنجازه لكتاب كان يؤمل منه أن يفي أمير البزق حق قامته الإبداعية، فلعلنا نشهد ذلك في الأيام القادمة.