تعبيرية.
تعبيرية.
الإثنين 18 مارس 2024 / 20:04

الصيام رياضة روحية لتنمية الذات

أهمَّ المنافع المترتِّبة على هذا الشهر تتجلَّى في "بناء الذات"



لسنا على خلاف أبدًا مع العلم ومنجزاته، سواء على الصعيد التقني التكنولوجي أو على صعيد العلوم الإنسانية، ومن تلك العلوم علم النفس بتفريعاته وتخصصاته الدقيقة، ونخصُّ هنا ذلك العلم الذي فرض نفسه أو فرضته وسائل التواصل الإلكتروني الحديثة، وهو علم التنمية البشرية.
لكننا لو حاولنا استنباط المفاهيم السليمة عن تنمية الذات من منظور القرآن الكريم، لوجدناها جميعها تتسم بأهمية بالغة، إذ تدعو إلى محاسبة ومراجعة الذات؛ بغية تحليتها بالفضائل الأخلاق، لكن تنمية الذات أو إدارة الذات، أو كما يراد تسميتها في وقتنا الحاضر، تأخذ في غالب الأحيان- بُعدًا نفعيًّا ماديًّا وليس تربويًّا وأخلاقيًّا كما في تعاليم ديننا الحنيف.
فالروح في الإسلام لها قيمة عالية في تكوين حياة الإنسان، وفي تشكيل مفاهيمه عن الحياة، والشعائر الدينية- خصوصًا في الأيام الفضيلة- تحمل في مضامينها المسؤولية الكاملة عن محاسبة الذات، ومجاهدة النفس، فإن للإيمان ومقتضياته من الأعمال والأوصاف جمالًا لا يُحِسُّ به إلا ذوو الأذواق السليمة، وأرباب الفطرة الربانية؛ ولهذا أقسم الله بالنفس اللوَّامة المقبلة على المحاسبة المستمرة، والرجوع من المعاصي، والإقبال الكبير على الله بالتوبة والاستغفار، حتَّى تصل النفس إلى مرتبة الاطمئنان، وذلك بحسن الظنِّ بالله؛ مما يؤدي إلى سكون القلْب، وزوال خوفه واضطرابه، فإن مقام الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
كما أن تنمية الذات من رؤية روحانية تتمثل في التزكية الذاتية، وفي الإقبال على الخير، ومضاعفة الجهود من أجل رضوان الله، فالإنسان الأمثل هو ذلك الإنسان الذي يريد أن يُطوِّر ذاته من إجل الدنيا والآخرة، حيث يرى الله أقرب إليه من نفسه، وهذا ما يُسمَّى بالسير نحو السلوك الأخلاقي، والوصول إلى الكمال الإنساني المنشود.
هذا في كل أيام العام، فما بالنا في رمضان؟ إن المسافة إلى الله طريقها قريب في رمضان، بل إنه طريق ممهَّد للسالكين، ما دُمنا نعقل الأمر ونتدبره، ونُقبل على شهر رمضان بالوعي لفضله، وتطبيق أوامر الله، واقتناص فرصة الفرار إلى الله في شهر الله، ونقد الذات ومحاسبتها، وتقويم أخلاقنا، حتى نرتقي إلى العرفان الروحي؛ لكي تظهر آثار الصيام وأنوار القيام؟!
والحقيقة أن أهمَّ المنافع المترتِّبة على هذا الشهر تتجلَّى في "بناء الذات"، من خلال "نقد الذات"، أو "محاسبة النفس"، وهذا دأبُ الصالحين، وطريق المتقين، وإنّ تحقيق ذلك ليس متعذَّرًا، بل هو تحت إرادتنا ولمصلحتنا: ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾.
وأهم ما نستلهمه من دروس في رمضان، فضيلة نقد الذات؛ فهي اعتراف بالخطأ أمام خالقه أولًا، ثم أمام النفس ثانيًا؛ فلنكتشف الصفات والطبائع والأخلاق السيئة والقبيحة الكامنة في أنفسنا؛ لنعمل على تصحيحها، والتخلص منها في تعاملاتنا مع غيرنا من الناس.
لكن القليل من الناس مَن يمارس النقد الذاتي على نفسه، وذلك من خلال متابعته ومراقبته لأفعاله، وتقويم سلوكه، وتطوير أخلاقه الظاهرة والباطنة، بحيث لا يتغافل عن الإمعان في تصحيح مساره، من أجل تحقيق الثواب والاجر، وهنا يأتي دور الجانب الديني في توعية مثل هؤلاء الغافلين عن نقد ذواتهم وإصلاح عيوبهم.
كما أن أفضال شهر رمضان لا تُعدُّ ولا تُحصى، فالصيام رياضة روحية لمجانبة شهوات النفس؛ لما له من أثر كبير في تنوير القلب، والشبع أصل القسوة والغفلة والكسل عن الطاعة، ومع ذلك رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش؛ لأنه يرسل جوارحه في المعاصي، ولا يحفظ لسانه عن الكذب والغيبة، والخوض فيما لا يعنيه، أو يحفظ بطنه عن الحرام والشُّبَه، فيُفسِد بذلك صومه، ويُضيع تعبه، وهو ممَّن غلب عليهم الشقاء والخذلان؛ لأنهم ابتعدوا عن مكارم الأخلاق، ولم يكن لهم من صيامهم إلا الجوع والعطش.
لهذا السبب جعل الله لمقام حسن الخلق درجة الصائم، كما في الحديث: "إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم"، ومَن لم يُفلِح في تغيير عاداته السيِّئة في رمضان فهو في غير رمضان أَوْلَى، فندعو الله أن يجمع لنا في رمضان بين الصوم وحسن الخلق ؟
أخلص التهاني بهذا الشهر الفضيل، وكل عام وبلادنا قادة وشعبًا بكل خير وبركة ورخاء.