الثلاثاء 19 مارس 2024 / 12:43

تقرير: الكونغرس ينهب جيشه

يرى الكاتب السياسي المستقل والمقيم في السويد مالكولم كييونه، أنه في بعض الأحيان، يبدو أحد الأخبار عادياً جداً، لدرجة أنه بالكاد يحظى بأي اهتمام، حتى عندما يقلب العالم رأساً على عقب ويكشف عن عفن يتمدد في العمق.

لم يكن مجرد قضية عثور على 300 مليون دولار تحت وسادة أريكة في البنتاغون

هذا ما حدث الأسبوع الماضي عندما أعلنت إدارة الرئيس جو بايدن عن خططها لإرسال مبلغ إضافي مقداره 300 مليون دولار إلى أوكرانيا، في تدبير موقت حتى يتمكن الكونغرس من تمرير حزمة التمويل.

ووفق مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، أصبحت حزمة المساعدات هذه ممكنة بفضل "توفير غير متوقع في التكاليف" ضمن عقود مختلفة مبرمة مع صناعة الدفاع لاستبدال المعدات التي تم إرسالها إلى أوكرانيا.

أين المشكلة؟

ويكتب كييونه في موقع "أنهيرد"، "بدا الأمر وكأنه خبر حميد. في نهاية المطاف، ما الخطأ في توفير القليل من المال؟ مع ذلك، إن الواقع أكثر تعقيداً بكثير. ما أعلنه جيك سوليفان في الواقع لم يكن مجرد قضية عثور على 300 مليون دولار تحت وسادة أريكة في البنتاغون، بل كان عملاً دنيئاً آخر في الدراما البطيئة التي لا تحظى بالتغطية الإعلامية والتي تتمثل في الانهيار المستمر للجيش الأمريكي". 

لفهم السبب، من المفيد البدء ببعض الحقائق الأساسية حول المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا.

عندما قرر البنتاغون إرسال أسلحة إلى كييف، تم أخذ معظمها من المخزونات الموجودة، لم يكن هناك مفر من هذا الأمر، لسببين على الأقل، أولاً، كان إنتاج الذخائر الأمريكية غير ملائم على الإطلاق لتغطية متطلبات الحرب. ثانياً، كانت المهلة اللازمة للإنتاج الجديد طويلة للغاية، إذ إن العديد من الأسلحة المطلوبة لأوكرانيا سنة 2022 لم تكن لتجهز واقعياً للاستخدام إلا بعد انتهاء الحرب.

وهكذا، جردت الولايات المتحدة مستودعاتها من المعدات وفي بعض الحالات، نهبت الذخيرة والأسلحة من تشكيلاتها القتالية الخاصة، وفي حالات أخرى، جردت العديد من حلفائها، مثل كوريا الجنوبية، من كمية كبيرة من معداتهم أيضاً.

يثير هذا سؤالاً مهماً

وعندما يرسل شخص ما سلاحاً موجوداً إلى أوكرانيا، لأن إنتاج سلاح جديد غير عملي وبطيء جداً، ما الكلفة الحقيقية لهذا السلاح؟ لا إجابة واضحة وفق الكاتب. على سبيل المثال، بعض الأسلحة المرسلة إلى أوكرانيا لم تعد قيد الإنتاج، وفي الواقع لم يعد من الممكن إنتاجها. قد يكون ذلك لأسباب عدة مثل تقادم مكوناتها الإلكترونية أو بيع مصانعها وانحلال الشركات المصنعة لها وغيرها.

لذلك، في حين أن الجيش الأمريكي قد دفع بالفعل نحو 40 ألف دولار مقابل صاروخ ستينغر في منتصف الثمانينات، يصبح تقدير كلفة صاروخ واحد اليوم في أفضل الأحوال مسألة تخمين.

وحتى في الحالات الأقل دراماتيكية، حيث لا تزال الذخائر قيد الإنتاج، لا تزال التكاليف عرضة لتقلبات شديدة للغاية: فقد ازداد سعر الحصول على قذائف مدفعية عيار 155 ملم لحلفاء الناتو أربع مرات تقريباً منذ بداية حرب أوكرانيا. 

ومكن ذلك أمريكا من إرسال كميات ضخمة من أسلحة الناتو إلى أوكرانيا، بينما اكتفت بتخمين الكلفة الحقيقية لهذه الأسلحة.

ومن غير المفاجئ أن يكون هذا الأمر قد حفّز بشكل هائل إجراء تقديرات متفائلة: كلما قلّت قيمة القذائف والصواريخ، أمكن للمرء إرسال المزيد منها في حدود موازنة الاستبدال المخصصة.

وبطبيعة الحال، إذا تم تخفيض تقديرات الكلفة، أو كان التضخم وندرة العمالة يعنيان أنه لم يعد من المربح لصناعة الدفاع أن تنتج بهذا السعر، فالنتيجة النهائية هي شكل من أشكال نهب الموازنة.

لقد تم أخذ شيء ما، وتم تخصيص الأموال من الناحية النظرية لاستبداله، ولكن إما بسبب السذاجة أو الفساد أو الخبث، ليست هذه الأموال كافية لدفع تكاليف الاستبدال فعلياً. في النهاية، ستواجه الدولة فجوة كبيرة في موازنتها، وثقباً كبيراً في استعدادها العسكري.

لا يهم ما إذا كانت التكاليف قد خضعت للتخفيض عن عمد أو بسبب سوء تقدير، فالنتيجة هي نفسها. إن أهل الطبقة السياسية في الولايات المتحدة الذين اعتقدوا لفترة طويلة أن بلادهم قادرة على الذهاب إلى أي مكان والقيام بأي شيء، ليسوا ببساطة في مزاج يسمح لهم بقبول إجابة رافضة.

حجم العطب في الكونغرس

لا تقتصر مداهمة الموازنة على حرب أوكرانيا. على سبيل المثال، عندما لم يرغب الكونغرس في تخصيص تمويل لقضية الجدار الحدودي الجنوبي المثيرة للاستقطاب الشديد، طرحت إدارة ترامب لفترة وجيزة فكرة سحب هذه الأموال ببساطة من الجيش الأمريكي.

وفي مكان آخر، تخطط البحرية الأمريكية حالياً لدفع تكاليف عملياتها الجارية في البحر الأحمر عن طريق سحب الأموال من الأصول التي خصصتها سابقاً لبرامج التحديث التي تشتد الحاجة إليها.
لماذا يحدث هذا؟ من أجل الإيجاز، كما يوضح الكاتب، تكفي الإشارة إلى أن الولايات المتحدة لم تعد لديها حتى عملية موازنة عادية. قلة من الناس تدرك مدى الخلل الوظيفي الذي وصل إليه الكونغرس هذه الأيام، وما هي العواقب التي قد يخلفها هذا على العديد من المؤسسات المهمة. في أغلب الأحيان، هو يفشل في اعتماد موازنة بشكل كامل، وحتى عندما يتمكن من القيام بذلك، تتأخر فواتير الإنفاق بشكل مزمن.

عائلة كاملة من الأوهام

عندما يتحدث الناس اليوم عن مستوى ديون الولايات المتحدة (34.5 تريليون دولار أمريكي وهو في ارتفاع سريع) أو العجز المستمر في الموازنة الفيدرالية (وصولاً إلى نحو 1.6 تريليون دولار أمريكي للسنة المالية 2024)، هم يفترضون غالباً أن هذه الأمور هي مشاكل للمستقبل.

يتفق الجميع على أن هذه المشاكل المالية ستبدأ، في مرحلة ما، بإلحاق الضرر الحقيقي بمكانة البلاد على المستوى العالمي، يختلف الناس ببساطة حول متى سيبدأ هذا بالحدوث.

لكن من المؤسف أن الحقيقة هي أن أعباء الديون الهائلة والعجز الفيدرالي بدآ بالفعل بتدمير أمريكا من الداخل. ليست هذه مشكلة المستقبل البعيد، إنها مشكلة هنا والآن.
بدلاً من تخصيص تمويل إضافي لتغطية الزيادات الحقيقية في الكلفة، أصبح اسم اللعبة هو خداع ومداهمة الموازنة، ونقل الأموال من "حوض" إلى آخر، إن "الحوض" الذي تم تجفيفه من أجل توفير المال لشيء آخر يبقى فارغاً بانتظار إعادة ملئه التي قد لا تأتي أبداً.
لذلك، تابع الكاتب، عندما يكتشف البنتاغون نحو 300 مليون دولار من "الادخارات"، فهذا في الواقع خدعة محاسبية. لكن هذه الخدعة تنتمي إلى عائلة كاملة من الأوهام، وسرعان ما أصبح تأثيرها على المؤسسة العسكرية الأمريكية كارثياً.

وهكذا، يقرأ المراقبون الآن أخباراً عن قيام الحرس الوطني الأمريكي بخفض علاوات الاحتفاظ بالخدمة بشكل مؤقت في خضم أزمة توظيف ضخمة، أو قيام القوات الجوية بإلغاء أجور العمليات الخاصة للعديد من الوظائف داخل الخدمة.

هل يواجهون مصير الأم في فيلم وداعاً لينين؟

مع ذلك، إن ما يثير القلق بشكل خاص ليس حتى الافتقار إلى المال في حد ذاته، بل الطريقة التي تم بها الحفاظ على التمثيلية.

في الفيلم الألماني وداعاً لينين، تقع أم لعائلة من ألمانيا الشرقية في غيبوبة قبل انهيار جدار برلين مباشرة. عندما تستيقظ، تكون الشيوعية قد انهارت، ولم تعد ألمانيا الشرقية موجودة. بعد أن قيل لأبنائها إن قلب والدتهم لا يستطيع على الأرجح تحمل صدمة هذا النبأ، شرعوا في خلق عالم وهمي حول والدتهم. داهموا مخازن العلامات التجارية القديمة للمواد الغذائية، وبثوا أخباراً مزيفة، ونهبوا عليّات الأصدقاء والجيران للحصول على تذكارات شيوعية.

اليوم أصبحت أمريكا تشبه على نحو متزايد مرآة لهذا النوع من بيوت المرح الرأسمالية وفق الكاتب، إن طبقتها السياسية أقرب إلى كبار السن من الطبقة السياسية في الاتحاد السوفييتي المنهار، وقد وُلدت في وقت كانت ثروة الولايات المتحدة بلا حدود وقوتها العسكرية بلا مثيل. ولكن من أجل حماية الاعتقاد بأن شيئاً لم يتغير، يتم الحفاظ على خداع أكثر منهجية، فبدلاً من المخازن والعلّيات، تقوم الولايات المتحدة بمداهمة أموال المكافآت المقدمة لبحارتها وجنودها وتنهب الأموال المخصصة لصيانة سفنها وطائراتها. وفي الوقت نفسه، تستمر الديون في النمو، وتستمر الموازنة الحقيقية (المعدلة حسب التضخم) في الانكماش.
في فيلم وداعاً لينين، يصبح الحفاظ على وهم أن ألمانيا الشرقية لا تزال موجودة أمراً مستحيلاً في النهاية، وتذهب الأم المريضة إلى قبرها بعدما أدركت أن الدولة التي عاشت حياتها فيها قد انهارت منذ سنوات. 

في الوقت الحالي، تستمر عمليات القطع والحرق داخل البحرية الأمريكية والجيش والقوات الجوية، حيث يعمل أشخاص مثل جيك سوليفان بلا كلل للتأكد من أن الأمريكيين لن يكتشفوا الحقيقة.