الخميس 4 أبريل 2024 / 10:46

كتبٌ مبصرةٌ (8 ــ 8)

"إسلام بلا مذاهب".. محاولة جادّة وواعية لتوحيد الصف

"تأتينا الكُتُب محمّلة بمعرفة ـ يقينية أو ظنية ــ هي بنات أفكار مؤلفيها، فتأخذنا معها إلى عوالم المتعة، والبحث، والمساءلة أحيانا، ومن خلال البصيرة ـ تدبراً وتأملاً ـ نستحضر معها الماضي، ونعيش معها الحاضر، ونتسابق معها نحو غد واعد، فتبدو لنا الأماكن مفتوحة والزمن ممتدا، حتى لو كانت الكتب متعلقة بقضية واحدة، تنوعت الرؤى حولها، وتعددت طرق البحث فيها، على النحو الذي سنراه في هذه القراءة الرمضانية لثمانية كتب، خاصة بموقع 24.
هناك مجهودات تبذل بين المسلمين على مستوى عناصر النّخب (علماء، فقهاء، باحثون، كتاب، وعاظ، ودعاة، وغيرهم)، لأجل التقريب بين المذاهب، أو ردم الفجوة بينها، كللت بالنجاح أحيانا على مستوى التكتيك ـ إن جاز التعبير ـ لكنها على المستوى الاستراتيجي لم تحقق أهدافها المرجوة، لأسباب كثيرة، نذكر خمْساً منها هنا على سبيل المثال والذكر، وليس الحصر:
أولها ـ أن الإرث المذهبي بتعدده وتنوعه، وتراكمه التاريخي، وارتباطه بسياقات معينة، يصعب الانتقال به من حالة النفور والرفض إلى الجاذبية والقبول، خاصة وأنه تحول مع الوقت إلى ما يمكن اعتباره أو تسميته بـ"الهوية المذهبية"  
ثانيها: أن أصحاب تلك الجهود يقدمون إلى ساحات البحث والنقاش، وهم محملون بإرث مذهبي ثقيل، يصعب تخطيه على مستوى المنتمين لهذا المذهب أو ذاك، خاصة على مستوى العامة، الأمر الذي جعل نتائج التقارب والدراسة خاصة بعناصر النخبة، وتلك "النخبوية" عاجزة عن الإحاطة بالأبعاد الحقيقية لمسار حركة المجتمعات العربية في بعدها الإيماني.
ثالثها: تقاطع التأثير الخارجي على المذاهب الإسلامية، مع رغبة وتخطيط من قوى غير مسلمة دولية على توجيه المذاهب نحو أهدافها، ويتم ذلك بوعي أو بدونه حين تلتقي السياسة والمصالح الدولية، والاعتقاد الوهي في الدعم الخارجي.
رابعها: عمل الجماعات والتنظيمات الإسلامية العنيفة منها، وخاصة المتطرفة والإرهابية، وكذلك السلمية (الحاملة للواء الدعوة بفهم أو من دونه) على دعم الخلافات المذهبية وتطويرها.
خامسها: الانخراط الكلي لأتباع المذاهب المختلفة في فوضى الإعلام من خلال طرح قناعاتهم ورؤاهم المذهبية ـ بما فيها المستترة والمسكوت عنها، والتي تتحول إلى فتنة مذهبية بمجرد الاتيان على ذكرها بين العامة ـ على المنصات المختلفة، ووسائل الإعلام المتعددة.

الكتاب الموسوعة

الحديث السابق عن تلك الجهود لا يقلل من أهميتها، حتى أن هناك كتابات، أثرت في مسار الوعي بالمذاهب، واعتبرت مرجعيات مقبولة من معظم المذاهب الإسلامية، كونها جعلت تلك المذاهب في خدمة الإسلام من خلال التطبيق العملي لما جاء فيها، وليس العكس، منها على سبيل المثال كتاب "إسلام بلا مذاهب"، تأليف الدكتور مصطفى الشكعة، الذي يعد في نظر كثير من الباحثين مرجعاً أساسيّاً لمعرفة المذاهب الإسلامية بشكل ميسّر وبسيط.
الكتاب طبع منذ صدوره من العام (1960م | 1397هـ) إلى غاية الآن أكثر من عشرين طبعة، وفي كل طبعة كان مؤلفه، يضيف له، أو يعدل ويطور من معلوماته بناء على ما كان يرده من القراء من المذاهب المختلفة، أو كما يقول المؤلف: "لقد أكرمني الله بالتوفيق في كتابته، وحببه إلى القراء المسلمين من مختلف الطوائف والمذاهب في مشارق الأرض ومغاربها، الأمر الذي وضع على كاهلي عبء التجويد والمتابعة، بحيث أنه لم تكد طبعة من طبعات الكتاب الكثيرة تخلو من إضافة أو إبانة، أو زيادة، أو تصويب أو حذف"( الطبعة 13 عام 1997م)، وقد استمر على هذا النحو حتى وافته المنية في 2011م، أي بعد 51 سنة من صدور كتابه.
لقد اعتبر كتاب "إسلام بلا مذاهب" موسوعة في المذاهب والفرق الإسلامية، ويذهب كثير من المهتمين بهذه المسألة، إلى أن ذلك يعود إلى كون الشكعة، واحداً من أبرز أساتذة الأدب العربي ذوي الاتصال الوثيق بالثقافة الإسلامية، وبالنهضة الإسلامية المعاصرة، وبعلوم الإسلام المرتبطة بالأدب واللغة، ولهذا عرَّف بالمذاهب الإسلامية في كتابه بروح داعية إلى التوافق والتوحد والتقريب، مقدما منهجا مختلفا عن ذلك نجده عند كثير من العلماء، الذي حرصوا في مؤلفاتهم عن الفروق والتعريفات والاختلافات بين المذاهب والفرق.

شلتوت.. والمؤرخ الأمين

الملاحظ أن مصطفى الشكعة، تمكن من فرض موضوعية العلم على نفسه، وحول ذلك إلى مسألة أخلاقية دون أن ينقص من الحقيقة شيئا، مدركا أن الكلمة الطيبة هي المدخل، وقد جاء ذلك واضحا في قوله: "لقد سيطر على اهتمامي ألاَّ أخدش شعور أحد من هذه الفرق الإسلامية الكثيرة، التي تماوجت بين الاعتدال والغلو، مع الحرص على ذكر الحقائق كاملة، سواء منها ما كان متصلا بالتاريخ أو مرتبطا بالحقائق، أو موصول الأسباب بالأشخاص".
يظهر الشكعة مخاوفه من استغلال الخلافات القائمة بين المذاهب من طرف أعداء المسلمين، لذلك قدم إجابات حول قضايا أثارت استفسارات ونقد الغربيين، كما جاء في مقدمة كتابه، كما عمل من أجل لمّ الشمل، وتوحيد صف، ورأب الصدع، متوخيا في ذلك كله طرح القضايا المتداولة بين المذاب بالحكمة والكلمة الطيبة.
لقد كان المقصود من كلام الشكعة، كما ذكر الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر، في تقديمه لكتاب "إسلام بلا مذاهب" في طبعته الأولى عام 1960م، "الكلام على الفرق الإسلامية، الغلاة منهم والمعتدلين.. وقد أعجبني منه أنه عالج الموضوع الشائك بأسلوب المؤرخ الأمين، ولكن في هوادة ولين لا تثير فتنة، ولا تورث ضغينة، ولا تبعث عصبية.. وكتاب إسلام بلا مذاهب هو محاولة من تلكم المحاولات التي اضطلع بها المصلحون أخيرا للمّ الشَّعْث، وتأليف القلوب، وتوحيد الصف الإسلامي"(ص ص 28 ـ 29)، وفي ذلك اعتراف بالآخر داخل فضاء الدين الواحد، وهذا مطلوب في عصرنا هذا، وفي كل عصور الأمة.