الثلاثاء 23 أبريل 2024 / 16:01

"حكاية الولد الفلسطيني".. في ذكرى ميلاد أحمد دحبور

في ذكرى ولادة الشاعر العربي الفلسطيني الراحل أحمد دحبور، يلفت نظرنا أن شهر أبريل (نيسان) أصرّ على أن يكون الشاهد الأبرز في حياته.

ولد الشاعر دحبور في 21 منه عام 1946 في حيفا، ولجأ إلى لبنان في التاريخ ذاته عقب النكبة العام 1948، ثم إلى مدينة حمص وسط سوريا، ورحل عن مائدة الشعر والحياة في الثامن من نيسان عام 2017!

عذوبة وإبداع

لم ينسحر الراحل دحبور بالضوء ولم يندحر بالظّل، خصوصاً أنه قد قدّم تجربته للقارئ بشكل مبكر، لقد أصدر مجموعته الأولى "الضواري وعيون الأطفال" العام 1964 وهو في الثامنة عشرة من عمره.
بدأت تجربته بالتطوّر، كما قال لي ذات حوار معه، منذ أن صار يسأل العالم عن فلسطين، بعد أن كان يسأل فلسطين عن العالم.
ففي ذكرى ميلاده لنا أن نستعيد أبرز سمات شخصيته الإنسانية والإبداعية، وهو الذي يمكن وصفه بالمكتبة المتنقلة لموسوعيته وذاكرته الحديدية. وكان الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين قد أصدر كل دواوين الشاعر دحبور في مجلدين قبل رحيله بأيام.
والشاعر الراحل دحبور في نظر الشاعر اللبناني شوقي بزيع أحد أكثر الشعراء الفلسطينيين اتصالاً بالموهبة ولهب الإبداع والجيشان الداخلي ذي الطبيعة الغنائية. إذ قل أن احتفظ شاعر من الشعراء بهذا القدر من اللطف ونقاء السريرة اللذين امتلكهما صاحب "طائر الوحدات" وحافظ عليهما على امتداد حياته. ويعيد الشاعر بزيع الأمر إلى ما كان في داخل الشاعر دحبور، ففي داخله مزيجٌ نادر من العذوبة والخفر، بما حمى الطفل الذي فيه من الأذى ووفر للغته ما تحتاجه من قوة البداهة وصفاء الينابيع. كان يمكن أن تخدشه هبّة زائدة من النسيم، فيما لم يكن هو من ناحيته ليخدش أحداً من الناس، ودوداً كان أم صاحب ضغينة، صديقاً أو عابر سبيل.

الكثير من الأصدقاء

ويمعن الشاعر بزيع القول في توصيف شخص الشاعر دحبور قائلاً "حتى في الإشارة إلى أعدائه ومغتصبي أرضه تبدو كتابات دحبور أقرب إلى التبرم والعتاب والاحتجاج على الظلم منها إلى التهديد والوعيد والعنف الدموي.

وأينما حل كان يكتسب المزيد من الأصدقاء ولا يفرط بأحد منهم، إن استطاع إلى ذلك سبيلاً. والصداقة التي ربطتني به، وبخاصة أثناء إقامته في بيروت، كانت واحدة من أوثق الصداقات وأكثرها رسوخاً مع الزمن، تماماً كما كان حاله مع العشرات من الشعراء والمثقفين، ومع البشر العاديين الذين ظل ينتمي طيلة حياته إلى طيبتهم وبساطة عيشهم وفقرهم النبيل".

عصب الكتابة المشدود

وهذه الإشارة من الشاعر بزيع تتناقض مع ما كان يتلقاه الشاعر الراحل دحبور في المدرسة، إذ مضى يقول في فصل من سيرته الذاتية " معروفٌ أن سوريا استقلت عن المستعمر الفرنسي في 17 نيسان 1946، وأننا لجأنا إليها بعد سنتين من ذلك التاريخ. فكانت أنظمتها الدراسية لا تزال قريبة من الأنظمة الفرنسية. وعلى هذا، كانت المرحلة الابتدائية تنتهي مع آخر الصف الخامس. فيتقدم التلاميذ والتلميذات إلى فحوص عامة موحدة لينال الناجحون والناجحات شهادة كانت تسمى "السرتفيكا".. وكانت سنة السرتفيكا، بالنسبة إليّ، سنة الهستيريا الدراسية إذا جاز التعبير. فقد استنفر الأستاذ فؤاد، ومعه بقية المعلمين محمد الزهوري وعلي صبحية وصدقي البيك ومروان الماضي ومحمد درويش وداود هوين وسلامة الجرجاوي. فكانوا يعلموننا صباحاً ومساءً. ولم يكن مسموحاً لنا ألا نستوعب. كان الأستاذ الزهوري بصورة خاصة يضربنا بشدة وهو يزمجر: "لازم تنجحوا.. غصباً عنكم لازم تنجحوا. عشان أبياتكو الشقيانين.. عشان فلسطين".. ومع ذلك فقد كنا نحب الأستاذ الزهوري الذي كان يلهب رؤوسنا بأدائه الفذ وهو يسرد تاريخ هارون الرشيد وسيف الدولة وصلاح الدين".

ومن المؤكد أن الشاعر دحبور استطاع أن لا يسمح لذلك العنف أن يترك أثراً في نفسه طالما أدرك أن سلوك المدرّس لصالح الطلاب ومن أجل فلسطين.

وفي الحقيقة كل من عاشر الراحل أحمد دحبور يعرف تماماً تلك الصفات التي وسمه بها الشاعر بزيع الذي تحدث أيضاً عن شعر دحبور وسلوكه الشخصي، وكيف اكتشف ذلك، إذ يقول: "وحين التقيت بالشاعر أحمد دحبور للمرة الأولى أثناء إحيائه لأمسية شعرية في الجامعة اللبنانية لفتني فيه ذلك الاتصال الوثيق بين لغته وقلبه وتلك النبرة من الصدق التي تعصم الشعر من التأليف وتحوله إلى نوع من الفيض والجريان التلقائي للعبارات والصور ذات الطبيعة المشهدية. وحين أخبرني أنه يقيم في أحد مخيمات حمص السورية، لم أستطع المواءمة بين عصب كتابته المشدود وبين ما ظننت أنه الرتابة الموحشة لمدن الأطراف".

إضاءة في العزلة

ويؤكد الشاعر والناقد العراقي د.علي جعفر العلاّق على البساطة الإنسانية للشاعر دحبور في مقال له، بالقول: لقد تجلت على مستوى رفيع في ذلك الترفع الشخصي عن كل ما يثلم صورة الإنسان في الشاعر. لذلك لا أراني مبالغاً في القول إن أحمد دحبور يصلح، بشاعريته الفذة وتواضعه المبالغ فيه حد الحرج، نموذجاً للموهبة التي تضيء في العزلة حد الاحتراق. كان على وئام مع موهبته وصفائه الإنساني، وقضيته التي رهن لها عمره كله.

الطفولة وحكايا الأم

وذكر الشاعر دحبور في مقدمة مجلد ديوانه الصادر عام 1983 والذي ضم مجموعاته السبع الأولى، أن الشاعر الراحل "موريس قبق" ابن مدينة حمص إحدى الشخصيات الثلاث الذين أوصلوه للشعر بعد أمّه والزير سالم، والذي اعتزل كتابة الشعر بعد ديوانه الأول، ووفاءًّ من دحبور لمن تتلمذ على يديه شعرياً كان قد أهداه ديوان "هكذا" الصادر عن دار الآداب العام 1990، إلاّ أن الشاعر شوقي بزيع يفصّل لنا في موضع آخر من مقالته عن مظان الشاعر دحبور بالقول: لم تتلقف مياهها من مصدر واحد، بل من مصادر كثيرة متصل بعضها بالطفولة وحكايا الأم والسير الشعبية، ومتصل بعضها الآخر بالتراث الشعري العربي منذ عصوره القديمة، فيما ستظهر في مجموعته الثانية "حكاية الولد الفلسطيني" ترددات مختلفة من أصوات الرواد، قبل أن ينجح الشاعر في هضم قراءاته ومصادره المعرفية المختلفة وامتلاك أسلوبه المميز الذي يؤالف بين الالتحام بقضايا شعبه ومكابداته وتضحياته من أجل الحرية، وبين المغامرة الجمالية والأسلوبية التي يمنعها الصدق والتلقائية من التعسف والشطط التأليفي.

الخجل النبيل

وما مضي إليه الشاعر بزيع يؤكده أيضاً الشاعر د. العلاّق بالقول: "شدتني إلى أحمد دحبور صفتان أصيلتان، لا تتوفران في العادة إلاّ للشعراء الموهوبين بشكل استثنائي: نضجه الشعريّ السابق لأوانه، وبساطته التي ترتقي إلى مستوى الخجل النبيل. ومع أنه لم يتوفر على تحصيل علمي منظم، فإنه أقبل إقبال المولع الشغوف على قراءة الشعر العربي، قديمه وحديثه، مما أتاح لموهبته الشعرية أن تتفتح في وقت مبكر. وقد تجلى ذلك النضج الشعري في اكتمال إيقاعي، خصب، ومتنوع، لم يتحقق ربما إلاّ للقلة من شعرائنا العرب. وفي الوقت الذي هيمن على الكثير منهم إدمان واضح على بحور بعينها، لم يكن أحمد دحبور عبداً لبحر شعري بذاته، أو مجموعة من البحور، تستبد بقصائده أو تلزمه نهراً موسيقياً ضيقاً. كان يستخدم الكثير من البحور بطلاقة عالية، واقتدار لا غبار عليه. فلم يعترض تدفقه الشعري أيّ ضنك عروضي أو رتابة إيقاعية".

مُلك ناقص

ويتوسع الشاعر بزيع في ذكر الأطياف الإبداعية لتجربة الشاعر دحبور فيقول: هو واحد من القلائل الذين لا نتقصد حفظ أشعارهم بل نجد أنفسنا محمولين في غير مناسبة وظرف على تكرار بعضها، كأن نردد في معرض الحديث عن وطأة الزمن "نشحن العمر ثلثاء ثلثاء ونلقي حطباً في الذاكره/ لتسير القاطره"، أو في معرض النقد الذاتي وإبعاد القضية الفلسطينية عن شبهتي القداسة والأسطرة "ونعرف أن للفرس الفلسطيني حصته من العاهات"، أو في معرض الاحتجاج على مساومات السلطة وتنازلاتها "صاحبي حاول ملكاً/ ناقصاً أو بين بينْ/ وأنا حاولت عكا/ فهزمنا مرتينْ".

ويقول في موضع آخر: ستأخذ تجربة أحمد دحبور في ما بعد العديد من الأشكال والتحولات التي يُظهر فيها قدرات عالية على مستوى الدمج بين أساليب السرد والحوار والمسرحة والخروج من الصوت الغنائي الواحد لمصلحة الأصوات المتداخلة والبناء المركب، أو الإلحاح على التقفية الداخلية وترشيق القافية توسيع البحور والمزج في ما بينها. سينقطع الشاعر إلى قلقه وصمته، أو ستحرد شياطينه في الكثير من الأحيان، خصوصاً أن فلسطين التي عاد إليها وعاين مواجعها وتشظي جغرافيتها ومرارات أهلها كانت بعيدة كل البعد عن صورتها في مرايا الحنين وعن ظلها الفردوسي. على أن "حكاية الولد الفلسطيني" كما شعره سيظلان منجماً لإلهام الأجيال المقبلة بكل ما تحتاجه من كنوز.

نشوة النجومية

وعلى الرغم من عمق وفرادة تجربة دحبور الشعرية إلاّ أنها كما يؤكد الشاعر د. علي جعفر العلاّق أن أحمد دحبور لم يعش نشوة النجومية التي عاشها غيره دون وجه حق أحياناً، إلاّ أنه قدم براهينه الكاملة على تناغم شعري وإنساني قلّ نظيره، في مشهد لا يخلو من الشعوذات الشعرية والمهرجين.

ولا يسعنا ونحن نحيي ذكرى ميلادك أيها الشاعر الذي يعدّ مدرسة في الإبداع والإنسانية، إلاّ أن نردد أغنيتك التي عشقناها ولم نزل، الأغنية التي أعدت صياغتها من التراث الفلسطيني أواخر السبعينيات لإحدى مسرحيات المخرج السوري الراحل فواز الساجر، ولحنها المبدع الفلسطيني الراحل حسين نازك، وغناها سمير حلمي وابتسام جبري، ثم نشرتها على نطاق واسع فرقة "أغاني العاشقين": والله لزّرعك بالدار/ يا عود اللّوز الأخضر/ وأروي هالأرض بدمي/ تتنور فيها وتكبر/ يا لوز الأخضر نادي فلسطين الخضرة بلادي/ مدولي هالأيادي لحتى بلادي تتحرر).