الخميس 16 مايو 2024 / 18:17

أهل الفضل

في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، حين كانت دولة الإمارات لم تبلغ الثلاثة أعوام، في طابور الصباح بمدرسة خالد بن الوليد في الجزيرة الحمراء، إحدى قرى راس الخيمة، كنا نقف في صفين، نقف نحن تلاميذ المرحلة الابتدائية، من الأول إلى الرابع الابتدائي، وخلفنا فصولنا، وتقابلنا صفوف المرحلة المتوسطة الأربعة وخلفهم فصولهم.
كنا في اليوم الاول للسنة الدراسية، وفي الفصل يوزع معلمنا كراسات زرقاء وقلم رصاص وبراية وممحاة لكل تلميذ، ثم يضع علبة الطباشير البيضاء الجديدة على جانب السبورة السوداء بجانب المسّاحة، ويقول لنا: "سنذهب الآن إلى مخزن المدرسة لاستلام الكتب."
خرجنا في صف منتظم إلى المخزن، وكان بانتظارنا معلم كل مادة ليعطي كل منا كتب التربية الإسلامية واللغة العربية والعلوم والحساب والتاريخ والجغرافيا، لنعود حاملين هذه الكتب على أذرعنا النحيلة.
قبل أن نغادر مخزن الكتب يقول المعلم: "لا تنسوا أن تأخذوا كراستي الخط العربي، النسخ والرقعة، وكراسة الموسيقي."
أما طلاب المرحلة المتوسطة فكانوا يتباهون علينا نحن طلاب الابتدائية، لأن المدرسة تعطيهم أكثر منا، فهم يأخذون علبة معدنية صغيرة تسمى "أدوات الهندسة "، يوجد بها فرجار ومنقلة ومثلث ومسطرة صغيرة.
بعد أسبوع من الدراسة يأخذنا المعلم إلى العيادة التي بنيت على بعد 100 متر من المدرسة، كان الخوف ينتابنا فنحن ذاهبون لكي نأخذ إبرة "الشنتار" اي التطعيم، ويقوم الممرض جابر، رحمه الله، بتطعيم كافة التلاميذ، وكان غالبيتهم يتلقون التطعيم للمرة الأولى في حياتهم، فلم تكن اللقاحات موجودة حينها.
لم تكن المدرسة بها كافيتريا، ولكن كانت تصلنا يومياً قبل انتهاء الحصة الثالثة التغذية المدرسية، ويؤتى بصندوق خشبي يحتوي على عصير أو حليب في عبوة ورقية بشكل هرم مثلث، بالإضافة إلى خبز الصمون مع جبنة المثلثات وحبات تفاح أو برتقال بعدد طلاب الفصل.
مدرسونا كلهم عرب، مصريون وسوريون وفلسطينيون وسودانيون وغيرهم، لم يكن هناك مدرسون إماراتيون بعد، جاء هؤلاء المدرسون من حواضر الدول العربية إلى قرى الامارات قبل أن تصل شبكات الماء والكهرباء.
في فصل الشتاء نذهب إلى مخزن المدرسة مرة أخرى، نكون فرحين بالذهاب الى المخزن هذه المرة لأن المدرسة ستوزع علينا قطعة من الصوف رمادي اللون، و ماهي إلا أيام قليلة وترى أولاد القرية يرتدون كنادير الصوف الرمادي.
مكتبة المدرسة لم تكن تحتوي على كتب كثيرة، وكان اغلب الطلاب ممن يذهبون إلى المكتبة يبحثون عن العدد الشهري الجديد لمجلة "العربي"، مواضيعها دائما ما تكون شيقة ومتنوعة، وبالنسبة لطفل في المرحلة الابتدائية يعيش في قرية صغيرة في ذلك الوقت، كانت المجلة بمثابة نافذة على العالم الذي لا يعرف عنه الشيء الكثير.
عندما وصلت الكهرباء تدريجياً إلى بيوت الجزيرة الحمراء كان عدد التلفزيونات محدوداً، وأحدها كان في بيت جدي، وأتذكر أن جهاز التلفزيون "أندريا" كان له باب خشبي سحاب، يجتمع حوله أطفال الجيران لنشاهد مسلسلات بالأبيض والأسود مثل "ابن الحطاب" و "علاء الدين"، وفي المساء كانت النساء يجلسن متغشيات أمام الشاشة ظناً منهن بأن المذيع يستطيع رؤيتهن مثلما يرونه، أما أغاني عبد الكريم عبدالقادر مثل "مرحب غرامي" و"ما نسيناه" فكانت دائما حاضرة.
ذات مرة سألت أمي بعد أن انتهيت من حل الواجب في الكراسة الزرقاء عن صورة الرجل على غلاف الكراسة، فقالت لي "هذا الشيخ صباح السالم الصباح أمير دولة الكويت"، ثم وجّهت نظري إلى الشعار على كتبي المتناثرة حولي لتقول: "وهذا علم الكويت"، ثم التفتت نحوي لتسأل: " اقرا شو مكتوب"، وقرأت لها: "وزارة التربية والتعليم"، وفي أعلى الشعار فوق السفينة ذات الأشرعة كُتب: "دولة الكويت"، سألتها باستغراب: "لماذا دولة الكويت؟" ، فردت: "هاذيل أهلنا وهذا من خيرهم، جزاهم الله خير".
صمونة الجبن والكنادير الصوف والمدرسة والعيادة واللقاحات والمدرسون وأكثر من ذلك بكثير، كلها جاءت من الكويت.
في هذه الأيام تكاد تلمس فرحة الإماراتيين، عندما يتحدثون عن الكويت، نشعر بالتفاؤل ونحن أكثر من عرف وفاء الكويتيين، فهم أهل الفضل، تذكرونا عندما نسانا العالم، وتجربة الإمارات وإنجازاتها في الخمسين عاماً الماضية ستكون سنداً لأهل الكويت، وبحول الله القادم أجمل للكويت لذا.. فهو أجمل لنا.