الأحد 3 أغسطس 2014 / 22:14

سلاح الديمقراطية في معركة الصراع بين "ناصر" و"عامر" (2 من 2)



كان منطقياً أن ينهار الأساس الواهي الذى قام عليه تنظيم "الضباط الأحرار" وهو الصداقة الشخصية بمجرد انتصار الثورة، بل وأن تصدر قيادة التنظيم قراراً بحله وتسريح أعضائه إلى خارج القوات المسلحة بعد فترة قليلة من هذا الانتصار ، والذى كان الفضيلة الوحيدة لهذه "الصداقة" التي لا حصر للرذائل التي الحقتها بثورة.

وبمجرد أن نجح رجال يوليو في هدم رموز النظام القديم اكتشفوا أن ذلك "الهدم" هو كل ما كان يجمعهم، وأنهم يختلفون في رؤاهم لذلك النظام الذى يسعون لبنائه على أنقاض النظام الذى هدموا رموزه، آنذاك بدأت الاحتكاكات بينهم، وتولدت عنها شرارات سرعان ما أحرقت ما بينهم من صداقة، وكان مقدراً أن تكون أخطر -وآخر- تلك الاحتكاكات، وهى الصراع بين "عبدالناصر" و"عبدالحكيم عامر" هي الشرارة التي أحرقت السهل كله!

ومع أن عبدالحكيم عامر كان الصديق المخلص لـ"عبدالناصر" بعد أن عمل معه في السوان وفى كلية أركان الحرب، حتى أنهما لم يستطيعا الصبر على الحياة والعمل في مدينة واحدة - القاهرة- دون أن يعيشا في مسكن واحد، فترك "عبدالحكيم عامر" مسكن أسرته ليشترك مع "عبدالناصر" في استئجار فيلا أقاما فيها معاً، إلا أن هذه الصداقة لم تستطع أن تغير من مكانته في العام الأول من الثورة، إذ كانت أقدمية رتبته بين ضباط القيادة تلزمه أن يكون تالياً من حيث البروتوكول لكثير منهم، كان من بينهم زكريا محيي الدين وعبداللطيف البغدادي وجمال سالم، بل وأنور السادات نفسه.

وكان محمد نجيب هو الذى هيأ الفرصة لـ"عامر" لكى يخلفه في منصب القائد العام للقوات المسلحة بعد أقل من عام على نجاح الثورة فقد اكتشف الضباط الشبان الذين كان التناقض بينهم وبين "نجيب" قد بدأ يحتد ويسخن أن اللواء نجيب يوثق صلته بضباط الجيش، ويستثمر سمعته الطيبة بينهم قبل الثورة، وقبوله لقيادتها ليكون له شعبية بين العسكريين كما تكونت له بين المدنيين، وأن الحل هو إعطاء نجيب "شلوتاً" لأعلى ينزعه عن قيادة القوات المسلحة، وهكذا تقرر إعلان الجمهورية وتعيين "نجيب" رئيساً لها وترقية عبدالحكيم عامر من رتبة "الصاغ" - الرائد- إلى رتبة اللواء وتعيينه قائداً عاماً للقوات المسلحة.

ووافق الجميع على القرار لأن التخلص من نجيب كان هو هدفهم، ولم يكن المهم آنذاك، من الذى يحل محله لكن عبداللطيف البغدادي - وهو التالي في البروتوكول لـعبدالناصر - أدرك أن اللعبة غير بريئة واعترض على ترقية عامر وتعيينه قائداً عاماً، إذ وجد أن الجيش انتقل منذ تعيين عامر قائداً له من سيطرة مجلس قيادة الثورة إلى سيطرة جمال عبدالناصر وحده، وبذلك فقد المجلس قوته ونفوذه.

وقد أثبتت الأيام أن البغدادي كان على حق في استرابته من اختيار عبدالناصر لصديقه الحميم لهذا المنصب الرفيع الذى لم يكن مؤهلاً له، فسرعان ما طولب أعضاء مجلس قيادة الثورة الآخرون بألا يترددوا على وحداتهم العسكرية وألا يشجعوا أصدقاءهم أو أتباعهم من الضباط على التردد عليهم، حرصا على وحدة الجيش، وضماناً لتأمينه، وبعدها بقليل تقرر أن يتم تدبير مناصب مدنية لأعضاء تنظيم الضباط الأحرار ليغادروا الجيش، وبعد أن تورطوا في العمل بالسياسة، وهكذا ما كادت السنوات الثلاث المحددة لفترة الانتقال تنتهى حتى اكتشف أعضاء مجلس قيادة الثورة أنهم بلا حول ولا قوة، وأن الجيش قد نقل ولاءه من مجلس القيادة إلى عبدالناصر وعامر، وبهذا أصبح طبيعياً أن تنتقل السلطة دستورياً إلى عبدالناصر وأن يختار من يشاء من زملائه القدماء لمعاونته في مهمته الجديدة!

وفضلا عن الصداقة الحميمة بين الاثنين والتي توجت بمصاهرة قبل الثورة وأخرى بعدها، فقد كان عبدالناصر يظن أن صديق عمره عبدالحكيم عامر، أقل طموحاً من زملائه الآخرين، وأن شخصيته البسيطة الخالية من التعقيد، ونظرته غير العميقة للأمور لن تدفعاه لمناجزته سلطته، ولذلك ترك له القوات المسلحة يديرها بطريقة عمد الأرياف، بالاختلاط بالضباط والتبسط معهم والاستجابة إلى طلباتهم وتدليلهم مع التعامل بقسوة مع من يفكر منهم في التمرد أو يخطط للانقلاب.

ثم ما لبث عامر أن ترك مهمة تأمين الجيش لأعضاء مكتبه كان من بينهم بعض الضباط الأحرار ومنهم شمس بدران وعلى شفيق، وأضفى عامر على الجميع حمايته واعتبرهم قبيلته، فهو كبيرهم والمسئول عن كل اخطائهم رغم الهزيمة العسكرية التي وقعت في عام 1956.

وحين أراد عبدالناصر أن يتصدى لكل ما فعله عبدالحكيم عامر بالقوات المسلحة بعد نكسة الانفصال، والتي كان عبدالحكيم عامر أحد أسبابها، إذ كان من بين المشتركين في تدبير الانقلاب ضباط من مكتبه - اكتشف أن الأمر قد افلت من يده، وأن صديقه الوديع الوفي المخلص قد أصبح قوة مناظرة له، وبل وتكاد تكون أقوى منه.

وفى عام 1962 وبعد نكسة الانفصال - بدأ الصراع بين الرجلين يحتد ويشتد، واكتشف عبدالناصر كما قال أيامها أن الطفل المدلل عبدالحكيم عامر قد أصبح صاحب مخالب وأنياب، فأعاد طرح المشروع الذى نجح في تقليص نفوذ محمد نجيب واقترح أن يترك الباقون من أعضاء مجلس قيادة الثورة سلطاتهم التنفيذية، وأن يشكلوا قيادة جماعية، يكون من سلطاتها وضع السياسات ومراقبة تنفيذها، وتمارس كل سلطات رئيس الجمهورية، وأن تنتقل إليها سلطات القائد العام للقوات المسلحة في ترقية ونقل الضباط من مرتبة قائد كتيبة فما فوق، وأن يترك عبدالحكيم عامر قيادة القوات المسلحة، ليتفرغ لمنصبه كـ"نائب لرئيس الجمهورية" على أن يتولى قيادة الجيش قائد محترف.

وكانت تلك هي ذاتها الطلبات التي تقدم بها محمد نجيب في فبراير 1954 عندما اشتدت الأزمة بينه وبين أعضاء مجلس قيادة الثورة، وبعد أن اكتشف أنه فقد نفوذه حين تنازل عن قيادة القوات المسلحة فحاول أن يسترده بأن يكون في يده أمور الترقية والتسكين في المراكز القيادية بها.

لذلك رفض عبدالحكيم عامر مطالب عبدالناصر وأرسل استقالة مسببة من مناصبه، قلد فيها محمد نجيب فطالب بالديمقراطية وحرية تكوين الأحزاب وإطلاق حرية الصحافة، وهو أمر لم يكن يعنيه قبل ذلك، ولم يعنه بعدها إلا عندما تجدد الصراع بينه وبين عبدالناصر في أعقاب هزيمة 1967 فطبع استقالته تلك ووزعها على أعضاء مجلس الأمة ورؤساء المدن وضباط الجيش ولم يكن إخلاص عبدالحكيم عامر لمسألة الديمقراطية أكثر من إخلاص محمد نجيب لها، إذ بدت الورقة الرابحة في الصراع على السلطة.

ولعل أنور السادات كان على حق عندما سخر من استقالة عامر المسببة بأسباب ديمقراطية سواء عند تقديمها عام 1962 أو عند طبعها وترويجها في أعقاب هزيمة 1967، ففي كلتا المرتين، كان هدف عامر من هذا التهديد بالديمقراطية هو - كما يقول السادات - إغاظة عبدالناصر لأن هذه الأمور كانت تثير حنقه، ولأن عامر كان يعرف جيداً أن عبدالناصر لن يقبل أن تخرج هذه المسائل إلى العلن لتعرفها كل البلد أبداً لأن الشعب كله كان يريد الديمقراطية.

ولم يكن السادات في حاجة إلى ذكاء كبير ليكتشف هذه اللعبة التي لعبها هو نفسه بعد ذلك حين قاد انقلاب 15 مايو تحت شعارات الديمقراطية والحرية ليتخلص من خصومه الذين عرفوا فيما بعد بمراكز القوى رقم 2 على أساس أن عامر ومجموعته كانا مراكز القوى رقم 1.

وقد دهش كثيرون لذلك المنطق المعوج الذى جعل عبدالناصر يصر ورغم هزيمة 1967 البشعة، على أن يستبقى عبدالحكيم عامر على خريطة السلطة فيعرض عليه أن يكون نائباً لرئيس الجمهورية فقط، وأن يترك قيادة القوات المسلحة، والمنطق الأكثر اعوجاجا الذى دفع عبدالحكيم عامر إلى أن يصر كل الإصرار على أن يعود بكل سلطاته، وأن يظل قائداً عاماً للقوات المسلحة، معلناً بأعلى صوته أنه ما دام عبدالناصر قد عاد رئيساً للجمهورية فلابد أن يعود هو قائداً عاماً للقوات المسلحة، وكشف منطقة الديمقراطي عن هزاله حين أبى أن يستجيب لطلب الذين ألحوا عليه أن ينحني للعاصفة، وألا يتشدد في شروطه، مفسراً موقفه أنه الوحيد القادر على أن يقف في وجه عبدالناصر والذى يستطيع أن يفرمل نزعاته الديكتاتورية وأن مصلحة الوطن تتطلب أن يبقى في هذا الموقع وأن خروجه من القوات المسلحة معناه القضاء على القوة الوحيدة القادرة على التصدي لـ"عبدالناصر".

وكان صراع السلطة الذى نشب بين الرجلين في عام 1962 قد انتهى نهاية غير متوقعة، فقد كان تنازل عبدالناصر أمام إصرار عبدالحكيم عامر وأمام العرائض التي كتبها جنرالاته يطالبون بالإبقاء عليه في مجلس الرئاسة وفى قيادة القوات المسلحة، بكل سلطاته وكان الهدف الأساسي من إنشائه هو تقليص سيطرة عبدالحكيم عامر على القوات المسلحة، وعاد عامر بكل سلطاته على الجيش وبسلطات أوسع على الحياة المدنية.

وحتى الآن لا يعرف أحد سر تنازل عبدالناصر المفاجئ ذاك، وفى الغالب أن عامر استطاع أن يثير مخاوفه من أن يترك الجيش لأحد من زملائهما أعضاء مجلس قيادة الثورة القدامى أو أن يتركه لقائد محترف فيصعب ضمان ولائه له.

وكانت الصداقة الوثيقة النادرة التي جمعت بين الرجلين قد ذابت في صراعات السلطة التي نشأت بينهما والتي أجج أوارها كثيرون ممن أحاطوا بكل منهما حتى أن الرجال الذين كانوا يجتمعون في الحلقة الضيقة المحيطة بـعبدالحكيم عامر كانوا يسخرون أمامه من عبد الناصر فيكتفى بنهرهم بكلمات لينة.

وجاء الوقت الذى دفع كثيرون ممن ارتبطوا بالرجلين، في أوج ازدهار صداقتهما ثمن هذا الارتباط، وقد عانى حسين عبدالناصر - وهو الأخ غير الشقيق لجمال عبدالناصر الذى تزوج "آمال" - الابنة الكبرى لـ "عبدالحكيم عامر" - نتائج تدهور العلاقة بين الرجلين إذ أصبح كل منهما يلتزم الصمت فلا يتحدث أمامه عن الآخر، وفيما بعد وصل الأمر إلى حد فصل حسين من عمله كضابط طيار في القوات المسلحة، ومنعه طيلة حياة شقيقه من مغادرة البلاد.

وهكذا جاءت اللحظة التي لابد أن تنتهى فيها هذه الصداقة الدامية التي أثمرت ثلاث نكسات عندما حاول عبدالحكيم عامر أن يبتز عبدالناصر بأكثر مما يطيق، ومما تسمح به الظروف فحشد في منزله الضباط المهزومين الذين هربوا من الحرب، وبدأ يلوح بالقيام بمحاولة للاستيلاء على القيادة العامة للقوات المسلحة، ويطرح مطالب كل الفئات السياسية التي كانت ساخطة على الحكم قبل ذلك بالديمقراطية وحرية الصحافة، ولعله كان يظن أن تلك المحاولات ستثمر نفس الثمار التي أثمرتها - قبل ذلك - محاولات 1962 .

وقد ظل عبدالناصر متردداً لفترة طويلة قبل أن يتخذ قراره بتصفية صديق عمره، وحين وصل إليه نبأ انتحار عبدالحكيم عامر، واستأذنه السادات في أن يسافر مع الجثمان ليشارك في تشييع جنازته في قريته "اسطال" رفض عبدالناصر خشية أن يتهور أقاربه فيعتدوا عليه ثم قال له بأسى:

ـ تصور أن عبدالحكيم يموت .. وماحدش يمشى في جنازته حتى أنا.. تصور؟!!

وما أكثر العجائب التي يحفل بها التاريخ!