الثلاثاء 23 سبتمبر 2014 / 14:01

هل بات لبنان على شفا الحرب الأهلية الثانية؟



الحرب لا تبدأ في اليوم الأول لها، ولكن قبل ذلك بكثير، وعندما تتوفر الصواعق، تكتمل المقدمات، وعند أصغر شرارة ينفجر كل شيء. حتى الأعمى يتناهى إليه، الآن، دبيب حرب أهلية جديدة في لبنان.

هل يكون ملف اللاجئين السورين في لبنان بتعقيداته الخاصة الصاعق الجاهز الذي سيفجر الحرب الأهلية اللبنانية الثانية، بعدما كان ملف اللاجئين الفلسطينيين في هذا البلد الصاعق الذي فجر الحرب الأهلية الأولى سنة 1975؟ وهل لبنان يعيش هذه الأيام مقدمات تلك الحرب، ممثلة في جملة من العوامل الداخلية والخارجية، أبرزها حشدٌ طائفي ومذهبي ومناطقي متفاقم، يقوم على تمايزات مناطقية وخلل اقتصادي اجتماعي سياسي أحدث شروخاً عديدة في الجسد اللبناني وتسبب في غياب العدالة الاجتماعية وتهميش فئات واسعة من اللبنانيين في مناطق تحولت إلى بيئات يحتلها الفقر والمرض والتجهيل، في ظل فشل التنمية على كل صعيد، مع شح الموارد، وضعف الدولة، وتغول حزب الله بلونه الطائفي المائز وممارساته المذهبية، وقبل هذا وذاك وقوفه عائقا أمام عجلة الحياة السياسية الطبيعية لجميع اللبنانيين، والتي تعطل معها كل شيء، الدولة والمجتمع والاقتصاد والسياسة، ما أصاب الكيان برمته بشلل مزمن. وبدهي أن ارتهانات هذا الحزب الاصولي المسلح للخارج، وتبعيته المهينة لإيران ومخططاتها، إنما يلعب دورا حاسما في مآلات الوضع اللبناني.

وإذا أضفنا، الآن، إلى هذه الحالة العامة الرثة بصواعقها الوفيرة، العامل المستجد المتمثل باللاجئين السوريين، الذين تدفقوا على لبنان خلال الأعوام الثلاثة المنصرمة، ليشكلوا، حسب التصريحات اللبنانية، ثلث الساكنة في لبنان اليوم، فإن مقدمات الحرب الأهلية الثانية تكون قد اكتملت عمليا، ليشبه الوضع اللبناني اليوم، ما كان عليه وضعه عشية الحرب الأهلية الأولى سنة 1975، ولا ينقصنا، حتى تندلع شرارة هذه الحرب سوى شرارات صغيرة يمكن أن توفرها، لمن يطلب حربا أهلية في لبنان تنجيه من استحقاقات الزمان والمكان، حادثة فردية هنا وغيرها هناك، فكيف إذا كانت هذه الشرارات من قبيل مقطع الفيديو الأخير الذي انتشر في وسائل الأعلام ويظهر جنودا لبنانيين ينكلون بلاجئين سوريين على طريقة جيش الأسد في التنكيل بالسوريين في مدنهم وقراهم، أو بمقطع الفيديو الأسبق الذي يظهر شابا من طائفة الحزب الإلهي، يهدد أطفالا لاجئين بالذبح على طريقة داعش وحالش وأبو الفضل العباس وشبيحة الأسد، وقد تكافلوا وتعاضدوا وتشاركوا بأعمالهم الإرهابية الشنيعة في تدمير سوريا وسفك دم السوريين من طائفة معينة، تحت شعارات وبيارق لا شبهة في طائفيتها، وكانت أعناق الأطفال السوريين طعاماً لسكاكينهم.

الذين عاشوا الحرب الأهلية في لبنان السبعينات يذكرون ولا شك حكاية الشرطي اللبناني الغامض الذي ظهر فجأة عند تقاطع شارعي غنوم – مارون وسعيد الأسعد، ليوجه حافلة الشبان الفلسطينيين في ذلك اليوم المشؤوم، لتسلك طريق عين الرمانة، بخلاف التوجيهات المعطاة لها بعبور طريق آخر وصولا إلى محلة الفاكهاني ببيروت الغربية. ما تزال في أوراقي صورة نشرت في جريدة لتلك الحافلة التي قتل جميع ركابها برصاص أنصار حزب الكتائب نهار 13 نيسان من عام 1975، لتكون تلك الحادثة في ذلك اليوم شرارة حرب أهلية ستستمر خمسة عشر عاماً، سقط خلالها، حسب تقرير أوردته صحيفة "الحياة"، في عددها الصادر في 10 آذار 1992، 144240 قتيلاً، و197506 جريحاً، و17415 مفقوداً. غالبيتهم من فئة الشباب.

من كان ذاك الشرطي اللبناني، وكيف ظهر في ذلك الموقع، في تلك الساعة، وكيف اختفى وتبخر كل أثر له بعد اتمام مهمته، ليتحول بعدها إلى لغز من الألغاز الكثيرة لتلك الحرب؟ لم يعد هذا السؤال يشغل أحدا، ولعله لم يعد مهما لأحد معرفة هوية ذلك الشرطي، اللهم سوى المؤرخين. 
بعد السبب الكبير في فاجعة تاريخية، لا يعود السؤال عن الأسباب الصغيرة مهماً، فها هو حزب الله بتدخله السافر والوقح في القتال السوري إلى جانب نظام الأسد ضد انتفاضة الشعب السوري، تحت راية طائفية ونزعة مذهبية مقيتة، نازعاً عن بندقيته شرعيتها كبندقية مقاومة لإسرائيل في الجنوب، يستفز المكون السّني في لبنان من أقصاه إلى أقصاه، وقد سبق لهذا المكون أن سانده عندما كانت بندقيته في وجهتها الصحيحة. أما وقد حول بندقيته إلى بندقية مأجورة لصالح الاستبداد، وبات سلاحه مبللا بدمٍ حرام هو دمُ السوريين، ومرهونا (وراهنا معه غالبية الطائفة الشيعية في لبنان) لقوة إقليمية دخلت في صراع وجودي مع العرب، وباتت عدواً صريحا لكياناتهم ومجتمعاتهم، فقد أزال عن نفسه، نهائيا، برقع المظلومية التي منحته جزءا من شرعيته، وها هو، بالمقابل، يسهم في ظهور مظلومية سنية لا التباس في حاجة ضحاياها إلى التعاضد والتكاتف والبحث عن حلفاء محليين وإقليميين يساعدونهم على رفع الظلم عنهم، وهذا من شأنه أن يشكل سببا جوهريا للصدام، وبالتالي اندلاع حرب أهلية لا يمكن لأحد أن يتنبأ بمجرياتها الكارثية، ولا بنهاياتها، ولربما تمسح هذه الحرب الجديدة، بنتائجها الكارثية، من ذاكرة اللبنانيين تلك السابقة، كما مسحت المجازر المروعة، التي ارتكبها نظام الأسد بشعبه وساهم حزب الله فيها بافتخار، من ذاكرة السورين والعرب مذابح الإسرائيليين في صبرا وشاتيلا وقانا، وأحيت وقائعها الأليمة، من جديد، وقائع مذابح حماه، وتل الزعتر، ونهر البارد، وغيرها مما ارتكبه نظام الممانعة ومنظومته الدموية بالسوريين والفلسطينيين واللبنانيين على حدّ سواء. 

ما يقع للاجئين السوريين في لبنان اليوم، من ظلم وتعديات عليهم وما يصبهم من رذالات يومية من جانب فئة ذات لون محدد من ألوان الطيف الطائفي في لبنان، تمثلت في رعاع الحزب المنتشرين في حاضنته الشعبية شمالا وشرق وجنوباً، وفي بيروت نفسها، بات ملحوظا أنه يجري في ظل صمت مريب، وتبريرات أكثر إثارة للريبة من قبل الجهاز الرسمي للدولة اللبنانية، مع ما يبدو عليه الموقف الحكومي من ركاكة إزاء هذه الإهانات والتعديات التي تركها لبنان الرسمي تحدث، من دون رادع، حتى وصلت إلى مرتبة الجرائم الجماعية بحق لاجئين مستضعفين، لم يختاروا أن يكون لهم هذا القدر. 

إنه لمثير للحنق حقا أن لا تكون هناك مرجعية قانونية أو حقوقية تمنع الخروق والاعتداءات الشرسة واللا أخلاقية بحق اللاجئين السوريين، من جانب جمهور محتقن طائفيا ومسعور مذهبيا ظهرت عليه عوارض الفاشية، وبات حرا طليقا مادام لا يجد رادعا، وقد اطمأن، على ما يبدو، إلى تواطؤ المتواطئين معه من قيادات الدولة اللبنانية، في ظل وجود جهاز رسمي لبناني ضعيف ومخترق ولا يملك من أمره ما يجعله قادراً على حماية رعاياه، حتى يطالب بحماية رعايا تنظر إليهم حاضنة حزب إيران، اليوم، على أنهم أجانب مشاغبون، وتحملهم تبعات مقتل أبنائها في سوريا، ومعهم نتائج ردات فعل فصائل مقاتلة في سوريا هي، اليوم، في حالة اشتباك عسكري مع ميليشيا حزب الله على الأرض السورية، وحيثما أمكنها الوصول إلى جسمه العسكري. والمنطق يقول إن تبعات كل الوقائع الدموية على الحدود اللبنانية السورية، إنما يتحمل كامل المسؤولية عنها الحزب، الذي تجاوز حدوده اللبنانية، ومعها كل الحدود الأخلاقية، ليصبح طرفا في جريمة تاريخية بحق شعب ثار على الظلم والطغيان ونهض يطالب بحريته وكرامته.

أما وقد ظهر جنود لبنانيون بشارات رسمية ينكلون جماعياً بلاجئين سوريين في عرسال، بينهم شيوخ وجرحى بعضهم فقد أطرافه، في صور تحمل إلى الأذهان ممارسات عصابات الأسد في الديار السورية، فلا نستغربن من رعاع طائفيين غسلت خطابات نصر الله رؤوسهم ومسحت منها عقولهم، وأزالت الرحمة من قلوبهم، أن يتشجعوا ويحتجزوا غدا في بيت مهجور في جنوب لبنان، أو في شرقه، أو شماله، أو في الضاحية الجنوبية من بيروت، صبية سوريين صغارا، ويقومون بذبحهم فعلياً، هذه المرة، وهم يرددون "الموت لداعش"، و"اللعنة عليك يا عمر، اللعنة عليك يا عمر". وقد بات "الداعشي"، اسما حركيا لكل سنّي. 

لا يحتاج الأمر، إلى أكثر من هذا الذي نستعرضه مع وجودِ وفيرٍ غيره من العوامل والأسباب والممارسات الطائفية الممنهجة، الناجمة في بكورتها عن تدخل حزب الله في القتال بسوريا، لا يحتاج، أبداً، إلى ما هو أكثر من هؤلاء الفلسطينيين الجدد الذين تسميهم الأمم المتحدة، بقليل من الإكتراث لمصائرهم الوخيمة على الأرض اللبنانية، اللاجئين السوريين، حتى يجد لبنان نفسه في خضم حرب أهلية جديدة، معظم أسباب اندلاعها باتت وقائع يومية. برميل البارود جاهز، والشرارة يمكن أن تنطلق في أي لحظة، ومن أي مكان في البلد الصغير الحائر. 
وإذا كان التغيير الديموغرافي المقلق الذي أدخله اللجوء السوري على المعادلة الأصلية للديموغرافيا الطائفية، وأصابها في صميم تكوينها، هو ما جعل السيد نهاد مشنوق يطلق ذلك التصريح الطائش من روسيا، مطالبا بإعادة السوريين إلى لبنان، إذا كان هذا العامل المستجد لا يبدو لحزبٍ متخمٍ بالسلاح عاملا مقلقا، مادام جمهور اللاجئين مستضعفاً وغير مسلح، فالحزب الإلهي يغمض عينيه عن حقيقة أن السلاح يمكن أن يتوفر في كل وقت، وأن الأعزل اليوم قد لا يعود أعزل غداً، فضلاً عن أن عشرات ألوف الفلسطينيين المحشورين في مخيمات بائسة والغاضبين، بدورهم، من السياسات الطائفية للحزب، هم في نهاية المطاف طرف في المعادلة مازال في وسعه لعب دور في حريق قد يندلع، على خلفية الوضع الحالي الخطير في لبنان.

ولا يمكن، في هذا الاستعراض، أن نغمض العين عن النشاط الاستخباري السوري وهو مايزال فاعلا على الأرض اللبنانية، مباشرة وعبر الوكلاء المحليين، والذي استهدف استقرار المكونات اللبنانية وتعايشها، وهو ما تلظى اللبنانيون بناره عقوداً، وخبروا داءه وأسراره، بدءا من طريقة اغتيال كمال جنبلاط، مرورا بطريقة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، وصولا إلى طريقة تصفية الجنود اللبنانيين المختطفين بواسطة تنظيمات كان قد اطلقها نظام دمشق من سجونه على إثر الانتفاضة الشعبية ضده، وهو الذي رعاها في أقبيته المظلمة، كما رعى، من قبل، تنظيم فتح الإسلام و(أبو عدس) وقائمة لا تحصى من الأشباه والأضراب الذين خدموا سياساته اللبنانية. 

لو كان ميزان السلامة يقام على الأمنيات، لكانت أمنياتنا للبنان أن لا يختل ميزان سلامته أكثر مما هو مختل، وأن تعتدل كفتاه، ولن تعتدلا، لينعم أهله الكرام بالطمأنينة والسلام الذي نطلبه لسوريا، إلا بسحب ميليشيات حزب الله من الجوار السوري، وتقديم الاعتذار للشعب الشقيق الذي جعلت سياسات حزب الله منه عدواً، ومحاسبة المجرمين الذين ارتكبوا الأعمال الشائنة في سوريا. وكل سلوك آخر من حزب الله، ومعه الدولة اللبنانية التي أسلمت نفسها له، مخالف لهذا المعنى، هو خطوة إضافية نحو الحرب الأهلية الثانية.

فليتحرك العقلاء، وهم موجودون في لبنان، قبل فوات الأوان، وليمنعوا الجيش من أن يتحول إلى ذراع آخر من أذرع الحزب الغائص إلى رقبته في دم السوريين وقد اختلط به بطريقة آثمة دم فتيان لبنانيين لا ناقة لهم ولا جمل في حرب يخوضها حزبهم ضد شعب شقيق بالنيابة عن إيران.