الخميس 11 ديسمبر 2014 / 09:16

الإمام الشافعي والـCIA



 أخيراً، بعد لأيٍ وتسويف وتأخير، وأنساق إعاقة شتى مارستها أجهزة حكومية مختلفة؛ أفلح مجلس الشيوخ الأمريكي في نشر 480 صفحة، من أصل تقرير يتجاوز 6000 صفحة، حول أساليب التعذيب التي مارسها عناصر وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بعد 11/9/20111.

في عبارة أخرى، لا يستحق المواطن الأمريكي، ومثله المواطن الكوني، إلا حصّة حقيقة واحدة من 12، بعد أن انحاز البيت الأبيض إلى صفّ الاستخبارات، ضدّ هيئات حقوق الإنسان وحماية الحريات العامة، وكذلك لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، فاعتبر أنّ نشر أيّ قسط إضافي سوف يعرّض أمن الولايات المتحدة للخطر! أكثر من هذا، لن يُحاسب أمام القضاء أيّ عنصر شارك في ممارسة التعذيب، أو أيّ "أخصائي نفسي" ابتدع التقنيات، أو أيّ مسؤول أمر بها. الوحيد الذي حوسب، وهو حبيس السجن بالفعل، يظلّ جون كرياكو، الضابط في الوكالة؛ الذي كان أوّل مَنْ كشف هذه الممارسات سنة 2007، فحوكم بتهمة إفشاء معلومات سرّية، وحُكم عليه بالسجن سنتين!

لافت، في المقابل، أنّ تقرير الكونغرس لا يحصي أنساق التعذيب التي كانت تنتهك حقوق الإنسان في معايير مبدئية، و"ساهمت في تلطيخ سمعة الولايات المتحدة"، فحسب؛ بل يعدد سلسلة من أنماط انتهاك المعايير القانونية والإدارية للبيت الأبيض، ولوزارة العدل الأمريكية، وكذلك لضباط وكالة الاستخبارات أنفسهم! وأولئك الذين مارسوا التعذيب رخّصوا لأنفسهم حرّيات قصوى، مثل الكذب على الجهات العليا، ابتداءً من الرئيس الأمريكي نفسه؛ أو إعاقة لجان التحقيق، سواء تلك المنبثقة عن مجلس الشيوخ، أو مفتشي الوكالة أنفسهم؛ أو التدخل في سيرورة اتخاذ القرار على مستوى البيت الأبيض، عن طريق تقديم معلومات مضللة؛ أو التعمية على الجمهور، وتجهيل الرأي العام، بتسريبات ممنهجة إلى وسائل الإعلام...

أهذه، حقاً، أمريكا العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؛ أم هي نسخة مستعادة من الجهاز الأخطبوطي كما رسمه جورج أورويل في عمله الشهير "1984"؟ ليس السؤال من عندنا، بل سبق أن طرحه فيليب جيمس، أحد أبرز متقاعدي التخطيط الاستراتيجي في الحزب الديمقراطي الأمريكي، حين أطلق تسمية "الكابوس الأمريكي" على تسجيلات هاتفية أمر الرئيس السابق جورج بوش الابن بأن تُجرى بحقّ عدد من الشخصيات الذين زعمت الإدارة إنهم على صلة بمنظمة "القاعدة". ولقد استذكر جيمس الدولة البوليسية الرهيبة كما تخيّلها أورويل، وتساءل: "هل تنقلب أمريكا إلى الشاكلة التي نخشاها كلّ الخشية: دولة على غرار الأخ الأكبر، حيث الحكم للأوامر العليا، ولا أحد مستثنى من تنصّت البوليس السرّي، وكلّ شيء مسموح به دفاعاً عن الوطن، بما في ذلك التعذيب"؟

حسناً، فماذا يقول جيمس، اليوم، عن ابن حزبه باراك أوباما، ساكن البيت الأبيض الحالي؛ والذي ـ بمعزل عن التصفيات الفردية، عن طريق الطائرات بلا طيار ـ تكفيه وصمة عار كبرى اسمها غوانتانامو؛ ذلك المعتقل الرهيب، الذي وصفه أوباما نفسه بـ"الفصل الحزين في التاريخ الأمريكي"؟ ألم يجزم أوباما، مرشح الرئاسة الأولى، أنّ سجون النظام القضائي الأمريكي جديرة باستيعاب مختلف ملفات المحتجزين، ويتوجب استطراداً إغلاق غوانتانامو؟ ألم يذهب ذلك الوعد أدراج الرياح، وصار شاهداً على اختبار مبكّر، ثمّ دائم بعدئذ، يفضح مدى الانفصال بين أقوال أوباما وأفعاله؟

وقبل تقرير الكونغرس هذا، خاضت في موضوع التعذيب ذاته مؤلفات كثيرة، وأبحاث وتحقيقات وتقارير، ففصّلت القول في الحيثيات والوقائع والملابسات، كما استخلصت النتائج الهزيلة بالقياس إلى الأكلاف المالية والأخلاقية والقانونية العالية. يُشار، خصوصاً، إلى ثلاثة أعمال: "فريق التعذيب: مذكرات رمسفيلد وخيانة القيم الأمريكية"، للمحامي البريطاني وأستاذ القانون فيليب ساندز؛ و"إدارة التعذيب: سجلّ موثق من واشنطن إلى أبو غريب"، واشترك في كتابته جميل جعفر وأمريت سينغ؛ و"محاكمة دونالد رمسفيلد: مقاضاة عن طريق كتاب"، من تأليف مايكل راتنر بالتعاون مع مركز الحقوق الدستورية. هذا فضلاً عن تحقيقات سيمور هيرش ومارك دانر وجين ماير ورون سوزكند وسواهم.

ومع ذلك فإنّ فضيلة تقرير الكونغرس، الأخير، هي توفير برهان جديد على أنّ حال الإنسانية مع وكالة المخابرات المركزية تسير على غرار ما شخّص الإمام الشافعي ذات يوم: وإذا ما ازددتُ علماً/ زادني علماً بجهلي!