الإثنين 22 ديسمبر 2014 / 13:05

مش هأقولك!



(أصل أنت مش واخد بالك.. أنا أقولك)، كالعادة افتتح المعلم بهيج حواره بهذه الجملة العبقرية الكفيلة بتثبيتك، فالعادي أن يكون محاوره (مش واخد باله) والأكيد أن ما سوف يقوله له المعلم بهيج بعد افتتاحيته الخالدة (أنا اقولك) هو خلاصة الخلاصة في نقطة الحوار.

والمعلم بهيج ليس بهيجاً على الإطلاق، فلم ينله من رصيد اسمه سوى النذر اليسير الذي ربما كفاه بالكاد إلى أن تزوج وأنجب ولدين وبنتاً، يطيقون العمى ولا يطيقون والدهم الذي لا يسمح لأحد منهم أن يكون له رأي، فإذا كان كل البشر عنده أعضاء في حزب (أنت مش واخد بالك) يمارس عليهم فتاواه ورؤاه، فما بالك بفلذات أكباده الذين ربما أنجبهم فقط من أجل هذا الغرض!

المعلم بهيج، تاجر مانيفاتورة، لديه وكالة قماش ورثها أباً عن جد، تقع وكالته في أحد شوارع المدينة القديمة من زمن الأسواق المجمعة، فكل المحلات تتاجر في الصنف نفسه، وبينها -عادةً- علاقات تعاون وتكامل، كما أن بينها كذلك مساحات تنافس.

لكم بالطبع أن تتوقعوا أن الحاج بهيج لا يعترف لا بالتعاون ولا بالتكامل، ولكن لن تتوقعوا الطريقة التي يفهم بها التنافس، يكفي أن تخرج امرأة من محله بعد أن عاينت البضاعة من دون أن تشتري، لتخطو عتبة المحل المقابل أو المجاور حتى تسمع صوته مجلجلاً في (الحتة) مقلباً في دفاتر منافسه القديمة، فيعايره مثلاً بأنه "دكتور"، وما الذي يجعل من دكتور تاجراً للقماش إلا إذا كان في الأمر سراً!

والشهادة لله، فقد كان الرجل مبتكراً وصاحب خيال خصب، دائماً يأتي بالجديد واللطيف، كتب على باب محله الزجاجي ذات مرة (من إذا لم لن يشتري قماش من الحاج بهيج.. دخل النار) وبعد أن وضع العبارة بين قوسين ومنحها الفخامة اللازمة، كتب تحتها بخط أصغر على الناحية اليسرى (حديث شريف).

الأطرف من هذه العبارة هو تبريره لها، الذي يختلف باختلاف السائل، وهو دائماً ما يبدأ بعبارته السحرية (أصل أنت مش واخد بالك.. أنا أقولك).

ألطف هذه التبريرات أنه فتح المحل ذات صباح فوجد تلك العبارة، فعلها أحد أولاد الحرام، وقبل أن تسأله: لماذا لم تمحها إذن؟! يقول لك: إنها الدليل الوحيد على الجريمة، التي لن يرتاح قبل أن يصل إلى فاعلها.

لكنه في لحظة تجل ٍأخرى يضحك ملء شدقيه قبل أن يقول لك (أصل أنت مش واخد بالك، أنا أقولك..) ثم يخبرك بأن (شريف) صاحب الحديث هو أحد أصدقائه القدامى، وبما أنه بالفعل قال هذا الكلام، فلا حرج إذن في النقل عنه، فهو (حديث شريف).

تسألني لماذا أكتب اليوم عن المعلم بهيج!

(أصل أنت مش واخد بالك، أنا أقوللك) فقد قلّبت ذهني طوال اليومين السابقين بحثاً عن فكرة تستحق الكتابة من أخبار مصر المحروسة، فوجدت أن الجميع سبقني وكتب مادحاً أو قادحاً.

لا أعرف لماذا قادني الحنين إلى صديق مصري عزيز اضطرته الدنيا إلى الهجرة مثلي، ولم أره منذ أكثر من 10 سنين، خفيف الظل وصاحب نكتة، من هؤلاء الأشخاص القادرين على تخليد البشر من خلال التقاط ملامح شخصياتهم وتحويلها إلى إفيهات وصور كاريكاتورية بهيجة.

قادتني الذكريات إلى الكثير من الشخصيات التي سقطت في مصيدة صديقنا وتحولت إلى شخصيات روائية تستحق الكتابة، وكانت حلقة اليوم من نصيب المعلم البهيج، الذي لم يكن بالطبع اسمه كذلك.

تسألني: وما علاقة ذلك بالكتابة عن مصر!

(اصل أنت مش واخد بالك... ومش هأقولك)
.