الخميس 19 مارس 2015 / 09:59

50 جنيهاً يا سيادة الرئيس!!



(عايز الصح.. صلّ عالنبي.. الثورة قامت.. اللي عنديه فلوس بقى عنديه أكتر، والجعان بقى جعان أكتر.. آخر كلام يا باشا) قالها الرجل الصعيدي الذي نحت الشقاء وجهه وتساقطت أسنانه نتيجة لغياب الرعاية رغم عدم تجاوزه الستين، قالها واستدار بالفعل مولياً ظهره للفنان رضا حامد ولكاميرا برنامج "المصري أبو دم خفيف"، قالها وهو يداري بابتسامة مريرة قلقاً غريباً أطل من عينيه فبت لا أعرف إن كانتا دامعتين فرحاً بالفضفضة أم قهراً منها.

كانت تلك عبارته التي أصر أن تكون الأخيرة، فختمها بـ"آخر كلام يا باشا"، جاءت خاطفة كطلقة وحادة كشفرة، ألقاها كأنما يلقي بحجر ضخم من على كاهله الذي أضنته الأيام، قالها في حضرة "الباشا" وفي وجه كاميرا التليفزيون، قالها على عكس كل ما روض عليه نفسه طيلة حياته؛ أن يدعي الرضا ويحمد المولى ويشكره على نعمة الستر خاصة في حضرة كل "باشا" وكل "أفندي ببنطلون" وموظف حكومة.

قالها وأدار ظهره للكاميرا ملوحاً بذراعه كأنما يهرب بخوفه الذي حضر بمجرد ما أفلتت من لسانه تلك العبارة، خوف يعرفه جيداً، يلازمه ويعيش تحت ثيابه، فقد علمته الدنيا أن لا يواجه بهذا الوجه المكشوف، ككل مصري غلبان يحتال على رزقه يوماً بيوم، عليه أن يروض لسانه فإن لم يكن معسولاً فعلى الأقل لا يحرمه قوت عياله.

هذا الكلام كان في شهر يوليو 2013م، بعد عامين ونصف العام تقريباً من صحوة المصريين في 25 يناير التي كسرت نمط علاقتهم بالحاكم إلى غير رجعة. وبعد أسابيع قليلة من خروجهم لاستعادة الثورة من تنظيم الإخوان المسلمين.

شعرت وأنا أتابع هذا الرجل الصعيدي البسيط أن شيئاً حقيقياً تغير بداخل المصريين، شيء صغير، تفصيلة بسيطة، لكنها ككرة الثلج يمكنها أن تتحول إلى جبل قادر على إزاحة أعتى العوائق.

"عايز الصح؟"

لقد أوجز هذا الرجل معنى الثورة - كما أتخيلها على الأقل- الثورة في معناها الواسع، باعتبارها إعلان نية التغير إلى الأفضل واختبار كل الاحتمالات التي تقود إليه وتذليل كل العقبات التي تحول دونه.

لكن هذا الصعيدي الكبير، وريث "المصريين القدماء"، الذين نحتوا حضارة وصل صيتها للعالم ولم يصل إلى من صنعها بدمه وعرقه، أبى ألا يكتفي بإعلان تخوفه من "ثورة قامت فزادت الغني غنى وأشبعت الفقير فقراً" على حد وصفه، لكنه نحت عبارة ينبغي أن يدرسها بهدوء رئيس مصر الجديد، وكل رئيس يختاره المصريون في المستقبل، وأن يضعها في مقدمة الأهداف الاستراتيجية الكبرى لعملية التنمية، قال المصري بهدوء من تشابهت عنده الأشياء: "... أني راجل عمري 55 سنة.. من واني عمري تسع سنين.. عم باشتغل وأشقى.. ما وفرتش خمسين جنيه!!).

عبارة بسيطة! تتكرر كثيراً!! اعتدنا عليها!!!

اخرجوا من أسر العادة ودققوا، فكروا قليلاً في رجل بكامل عافيته وقد بلغ الخامسة والخمسين من عمره يعمل منذ أن كان في التاسعة (46 سنة عمل)، ولم يتمكن من توفير 50 جنيهاً.

سيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس جمهورية مصر العربية، الموقر، أنت الآن رئيس كل المصريين، من اختارك محباً ومن اختارك رفضاً لمنافسك، ومن اختار منافسك لأسبابه الخاصة، ومن ضن بصوته عليكما معاً رفضاً أو كرهاً... فكر معي في حال هذا الرجل، واطلب من مستشاريك أن يجعلوا أمنيته البسيطة بتوفير خمسين جنيه حلماً يمكن تحقيقه.

ولكي يصبح حلم هذا الرجل حقيقة، فهو يحتاج عدة أمور بسيطة، يجب أن يتوفر له تأمين صحي لأن أقل نكسة في عافيته سوف تأكل الخمسين جنيه.

يجب أن يكون لديه سكن آدمي معقول، بإيجار يتناسب مع دخله، لأن أي مغامرة في السكن سوف تتبخر معها الخمسون جنيه التي يتمناها من دنيته.

يجب أن يحظى بفرصة عمل بضوابط تحفظ له حقه وتؤمنه، لأن أي يومين سيضطر إلى أن يجلس فيهما بلا عمل سيكلفانه أضعاف الخمسين جنيه.

يجب أن يضمن لأولاده فرصة حقيقية للتعليم في مدرسة حقيقية وصفوف آدمية ومناخ يسمح لهم بالفهم لأن درساً خصوصياً واحداً سوف يقضي على حلم الرجل بالخمسين جنيه.

يجب أن يكون قادراً على الوصول إلى عمله في مواصلة آدمية عبر شارع جيد، لأن كل تأخير في الطريق يجعل من حق صاحب العمل أن يخصم من راتبه ما يقضي على أمله في توفير الخمسين جنيه.

وأخيراً، يجب أن يجد إلى جانب رغيف الخبز النظيف قطعة لحم على الأقل أسبوعياً ليتمكن من الالتزام يومياً بعمله الشاق، فأي ضعف أو إرهاق سوف يؤثران على انتاجه فلا يمكنه أن يدخر الخمسين جنيه ولا تدور عجلة الإنتاج التي تعول عليها سيادتكم في إنقاذ مصر.

سيدي الرئيس، هذا الرجل يعمل منذ 46 سنة، إنه ماكينة شغل، فقط يحتاج إلى من يخطط له ماذا وأين يعمل، ويضمن له فرصة توفير خمسين جنيه، فهل ننتظر أن ينجح مؤتمر اقتصاد مصر الذي تابعناه بفخر وسعادة، أن يحقق ذلك؟

ننتظر الإجابة بشوق … وخوف.