الجمعة 14 أغسطس 2015 / 20:35

قل لي ماذا تسمع أقل لك من أنت؟

ربّما يجب أن أبتدئ هذا المقال بتحذيرٍ، على طريقة الأفلام الأمريكية، أعلن فيه: بأن جميع ما سيرد في هذا المقال لم يخضع للدراسة والبحث وإنما هي آراء ومشاهدات شخصية بحتة!

لم أقابل في حياتي أشخاصاً يحبون الحياة، ويحتفون/يحتفلون بكل مظاهر الحياة ومشتقاتها كما يفعل اللبنانيون. فهناك صورة نمطية مرسومة في أذهاننا، وتكاد تكون ملتصقة بـ"السوبر غلو" لدى الكثيرين، بأن اللبناني، رجلاً كان أو امرأة، غنياً كان أو "على قد حاله" يهتم بجماله ومظهره مهما كانت ظروفه!

وبالرغم من تردّي الوضعين الأمني والاقتصادي، لا يكف اللبنانيون عن الاحتفال.. بمناسبة أو بدون مناسبة

هذا التعلّق الغريب بالحياة والفرح دفعني، من باب الفضول وربما الغيرة، لأن أسأل أحد أصدقائي البيروتيين عن "سرّ الخلطة" اللبنانية، وكيف بإمكان اللبناني أن يثق بالحياة ويستمر بالخروج معها في مواعيد غرامية، وهي تصرّ على مناكفته، تضع النفايات وأكياس القمامة في طريقه، لكي يتعثّر ويسقط، ترتّب لازدحامٍ مروريّ في طريقه لكي تستفزّه، ترسل إلى حاراته ميليشيات دينية ومجرمين لكي تخيفه، فلا يسقط ولا يُستفزّ ولا يخاف!

فقال لي: ببساطة .. أغرس سماعات "الآيبود" في أذني وأستمع لفيروز وأمضي في حال سبيلي!

كانت هذه هي المرة الأولى التي حسدت فيها اللبنانيين على شيءٍ ما! حسناً.. هي المرّة الثانية، المرّة الأولى كانت في الابتدائيّة حين كنت أنتظر في طابور طويل أمام المقصف لشراء وجبة الإفطار، وشاهدت زميلي اللبناني وهو يخرج من حقيبته، ويمسك بيديه "منقوشة" باللبنة والزّعتر!

لكن السؤال الذي ظل يطاردني، كمتسول مزعج، هو هل للأغنية بالفعل هذا التأثير السحري على الأفراد!

هل اللبناني الذي يذهب إلى عمله صباحاً وهو يستمع لأغنية "الحلوة دي قامت تعجن في البدرية" لفيروز أكثر استعداداً للاقبال على الحياة من الخليجي الذي يستقبل يومه بالاستماع لأغنية "فرشي التراب يضمني" أو أغنية "ليس الغريب غريب الشام واليمن إن الغريب غريب اللحد والكفن"؟

بمعنى آخر، إذا كان كل ما نأكله ونستهلكه يؤثر فينا بشكلٍ أو بآخر، فلماذا لا يكون للموسيقى والأغنية التأثير نفسه في صقل شخصياتنا!

في مقابل اللبناني المحبّ للحياة، يبدو الفرد العراقي محكوماً بالحزن واللوعة على الدوام، بل إن العراقيين، ويعرف ذلك من يعاشرهم، يردّدون أشدّ الأغاني حزناً وتعاسة حتى وهم في غمرة فرحهم ورقصهم في الأعراس والمناسبات، إلى درجة تشكّ معها بأن العراقي يستغفر الله كلما راودته نفسه الأمّارة بالحزن على الفرح!

مسحة الحزن هذه أصبحت "ماركة" مسجلة ومحفوظة الحقوق للعراقيين دون سواهم من الشعوب العربية، تسمعها في مواويلهم، وتقرأها في أشعارهم، وتتحسسها في أصواتهم، إلى درجة أن أحد النقاد قال يوماً بما معناه: إننا عندما نسمع القرآن بصوت قارئ عراقي تتذكر الموت، في حين أننا نتذكر الحياة عندما نستمع إليه بصوت قارئ مصري!

والشيء بالشيء يذكر، قلما تجد مصرياً لا يتمتع بحسّ الدعابة والفكاهة، بل إن المصري لا يقاوم الألم بالمسكنات بقدر ما يقاومه بالسخرية منه.. والغناء له؛ فالشخصية المصرية المبتهجة، انعكاسٌ للأغنية المصريّة التي تأمر بالضحكة وتنهى عن الدمعة!

وماذا عن الأغنية الخليجية؟

الأغنية الخليجية مسكينة، فهي مرغوبة اجتماعياً، ومنبوذة في نفس الوقت دينياً. وهي بعكس الأغنيات اللبنانية والعراقية والمصرية لا تنعكس في تصرفات الشعوب الخليجية بقدر ما هي انعكاس للصراع النفسي الذي يضطرم في دواخلهم. هذا الصراع النفسي هو ما يشعر به الخليجي من حبٍ فطريّ للموسيقى وما يوضع في مقابل ذلك من قيم دينيّة تتشدد في احتقارها وفي ذمّ الساعين إليها. فهو يؤمن بأن الاستماع للأغاني إثم كبير بينما هو، من الجهة الأخرى، مندفع نحو الاستماع إليها اندفاعاً لاشعورياً عنيفاً.

والمثير للسّخرية، أو الشفقة، أنّه حتى أولئك الذين يرفضون الموسيقى بحجج وذرائع دينية تجدهم يلعنون الأغاني صباحاً ويستمعون لها -باستمتاعٍ بالغ- مساء!

أعود لأقول، بأنني لست عالم سوسيولوجيا ولكنني أستطيع أن أؤكد بأن أغاني الشعوب لها تأثير سحريّ على نفوسهم، وسلوكهم وعلى طريقتهم في التعامل مع الحياة!