الخميس 22 أكتوبر 2015 / 17:07

أوراق شاب عاش 70 عاماً

لا أكلُّ من ذكر تلك المكالمة، حينما كنت في ذلك المكان البعيد في أقصى الصعيد، كنت في عامي الجامعي الثالث، واتصل بي الروائي الكبير جمال الغيطاني ليسألني لماذا توقفت عن إرسال نصوصي إلى "أخبار الأدب"؟

قلت له إن آخر قصة نُشرت لي كانت منذ شهر تقريباً، وهذه مدة ليست بعيدة، فقال لي: "لا تتوقف، ارسل لي"، كانت مكالمة عظيمة أمدتني بطاقة هائلة. هذا الكاتب العظيم يسأل عن شاب يتلمس خطواته في عالم الكتابة. كنت أرسل إلى الجريدة في توقيت لم نكن نعرف فيه الإيميل، وكنت أدوِّن رقم هاتف المنزل أسفل الرسالة، وهو اهتم، واتصل بي. منذ تلك اللحظة أكن له احتراماً عظيماً، وكان لديَّ حلم بأن أعمل في الصحافة، وقررت أن ذلك الحلم لكي يتحقق فلا بد أن يكون من خلال أخبار الأدب، وساعدني الأستاذ مصطفى عبدالله على تحقيق ذلك. هذا حقه الذي ينبغي أن أذكره. هناك أتيح لي التعامل مع روائي ورئيس تحرير بقامة جمال الغيطاني.

أمضيت فترة بدون أن يتعامل معي. حتى نادى عليّ مرة، وقال لي: "هل تعرف كيف تكتب تحقيقاً؟"، وأجبته بحماس: "نعم". كلَّفني بكتابة شيء ما، ثم ذات مرة اتصل وقال لأحد زملائي، أظن أن ياسر عبدالحافظ يريدني أن أذهب إلى الشاعر الكبير (الراحل) عبدالرحمن الأبنودي، حيث يعالج في مستشفى قصر العيني، كان ذلك في بدايات 99، وذهبت إلى هناك، وتحدثت مع الأبنودي، والتقط له الصور أخي الأكبر الأستاذ يوسف ناروز، وابتداء من تلك اللحظة قرر الغيطاني أنني أحد أعضاء فريق الجريدة، وطلب مني حضور اجتماعات الخميس.

صارت بيننا علاقة إنسانية كبيرة، أساسها الاحترام، وتعلمت منه كثيراً فيما يتعلق بالإدارة، والقدرة على طرح أفكار، وتنظيم العمل، والإخلاص له إلى أقصى درجة، كان لا يهدأ طوال الأسبوع، دائم الاتصال بي وبزملائي، ليتناقش في أمور الصحيفة، أو ليطرح فكرة جديدة، وكنت أندهش كيف يكتب إبداعه الخاص في ظل مشغولياته الكبيرة، خاصة وأنه كاتب غزير الإنتاج، وترك للمكتبة العربية أكثر من سبعين كتاباً، ولكنني بمرور الوقت أدركت أنه شخص شديد التنظيم، ويعتبر أن الكتابة شيء مقدس، لا معنى لأن تتوقف عنها، أو تظل سنوات بدون أن تنهي عملاً، كان يتحدث ببساطة شديدة عن الفكرة التي يكتبها، آخر أعماله كانت مجرد أفكار صغيرة، وهو يحولها بخبرته الروائية الضخمة إلى أعمال كبرى، وعلى سبيل المثال عمله الجميل "نوافذ"، حيث يرى أبطاله العالم من خلال نوافذ، أو يتلصصون عليه من ورائها، نشر فصولاً في "أخبار الأدب" مع رسوم للفنان الأمركي هوبر، الذي كان مشهوراً أيضاً بإظهار شخصياته التي تعيش عالماً من الوحدة من خلف الشبابيك. لعل إدوارد هوبر هو من أوحى له بالفكرة. هناك أيضاً "رن" الذي يعني بالهيروغليفية "اسم"، كانت فكرة ذلك العمل قائمة على أن ما يبقى من الإنسان اسمه، هو الدال عليه، هو من يحدد ملامحه، وطباعه، وفلسفته في الحياة. كانت ثقافته موسوعية، وكما كان غزير الإنتاج كان "غزير القراءة"، لو جاز التعبير.

كان مشغولاً بفكرة الموت بالطبع، ولكنه حاول أن يستمتع بحياته، في أثناء مروري بشارع الصحافة نظرت إلى المقهى المواجه للمعهد الفني قبل أخبار اليوم بشكل تلقائي، ووجدته يجلس هناك. شعرت بدهشة شديدة، فهو لا يجلس هنا عادة، كما أن التوقيت المبكر كان غريباً. اتجهت إليه، ورحب بي، وطلب مني الجلوس، ووجدتهم يحضرون له الشيشة. أصبت بالصدمة، وأنا أعرف أنه منع نفسه منها منذ إجرائه عملية القلب المفتوح الأولى، وسألته: "هل عدت؟!"، ضحك وقال: "لا.. أنا فقط طلبت منهم التمباك، ولكنهم لن يضعوا ناراً". وضع المبسم في فمه وأغلق عينيه قليلاً، كأنه يحاول أن يستعيد لحظة قديمة، ثم نظر لي ضاحكاً: "كده تمام".

كان إنساناً عظيماً، لم يبخل عن تقديم كل أنواع الدعم لي، وكان من أفضل الهدايا التي تلقيتها في حياتي، كتابته مقالاً كاملاً عني في افتتاحية "أخبار الأدب" بعد فوزي بجائزة دبي للصحافة الثقافية عام 2003، عن تحقيق حول حياة وحكايات رهبان وادي النطرون، لقد ذهب الغيطاني، دون أن يتنازل عن مواقفه، ودون أن يهزه هجوم، لأن كان يتحرك طوال الوقت من شعور عميق بالمسؤولية تجاه وطنه. هذا ليس إنشاء، وإنما معرفة كبيرة به، معرفة استمرت عشرين عاماً، وبكل تأكيد فإن مصر بالنسبة لي فقدت أحد عظمائها، ولكن العزاء أنه ترك لنا ما يجعله حاضراً طوال الوقت.