الثلاثاء 17 نوفمبر 2015 / 18:54

شبح جمال الغيطاني

من اللحظة الأولى لانضمامي إلى جريدة "أخبار الأدب" شعرت أن الروائي الكبير جمال الغيطاني يعاملني بأبوة، والأب يكون قاسياً أحياناً، شديد القسوة، حينما كان يغضب لا يسمع، تشعر بأن الكلام يدخل من أذن ليخرج من أذن، تماماً كما لو كنت تجلس في غرفة بها نافذتان متقابلتان، يدخل الهواء من إحداها ليخرج من الناحية الأخرى، لا ينظر في عينيك أبداً، ولكنه حينما يقرر مسامحتك يكون الأكثر قرباً إليك في الحياة. علمني العمل تحت ضغط شديد، ألا تفقد أعصابك لأي سبب، ومع هذا كانت أعصابه تنفلت ولكن في حالات نادرة، لست هنا أتحدث عن منجزه الإبداعي، ولا عن ثقافته الموسوعية، ولا مشروعه الصحافي الضخم، ولكني أتحدث عن جوانب إنسانية في شخصيته. في تعاملاته كان يفصل بين الشخصي والعام، لم يحجب عن شخص حتى ولو كانت بينهما عداوة فرصة الظهور، كان يخلع تلك المشاكل من وجدانه ليعلقها على شماعته بالمكتب، وكان يقول لي أحياناً: "فلان لا يتوقع أن ننشر عمله هذا، ولكنني سأنشره ليعرف"، فقط "ليعرف"، ولا يصرح بالمزيد، ولكن كلمته كانت كافية.

كنت أبدأ حياتي بالكاد، ولم أكن أعرف وجهة في القاهرة سوى مقر مؤسسة أخبار اليوم، كنت أذهب مبكراً جداً إلى هناك سبعة أيام لأكثر من أربع سنوات، وكان يحضر مبكراً أيضاً، وهكذا دار بيننا كثير من النقاشات في كل شيء، تعلقت به إنسانياً، وكانت الفكرة المبدئية التي سيطرت عليَّ متى يموت جمال الغيطاني، كان هاجساً مرعباً، إلى ذلك الحد أحببت هذا الشخص واحترمته، وهو من زاد ذلك الشعور عندي، لأنه كان لا يكف عن ذكر الموت في كل الأحاديث تقريباً، لم يكن يكف عن الضحك، ولكنه سرعان ما يعود إلى الموت، يقول إننا نسير في خطوط مستقيمة، ولكل خط نهاية، كان يتحدث عن شجاعة مواجهة الموت، كان قلقاً منه، ولكنه لا يعترف بهذا، كان يقول إنه مستعد له، ولكنه كان يكمل إلى ما لانهاية. في إحدى المرات نادى عليَّ بعد خروج شخص من مكتبه، شخص كان دائماً في مقدمة من يكتبون عن الأموات، وقال لي: "أنا حاسس إنه محضَّر شهادته عني"، وانفجر في الضحك. حينما كان يغيب، وأعلم أنه لم يسافر، أتصل به، وكان صوته المميز القوي لا يتغير، يقول إنه تعرض لأزمة خطيرة: "كنت هاموت"، ولكنه كان يقاوم كما قاوم كثيراً وخرج منتصراً على ذلك الشبح الأسود الذي كان يطارده دائماً في يقظته وفي منامه. كان ما يحركه دائماً ثنائيات ليس كلها بالضرورة متضاداً، الطيب والحاد، الهادئ والغاضب، المتواضع والنرجسي، ولكن كان يترك المجال واسعاً لما يحسبه ونحسبه جميعاً صفات جيدة، وهكذا كانت النرجسية على سبيل المثال، تطل بعنف، ولكنها تختفي سريعاً ليعود ذلك الشخص المتواضع الذي يخجل من كلمة مديح.

كنت محظوظاً بأنني قرأت معظم أعماله، ربما منذ 98، وحتى قبل وفاته بقليل، مخطوطةً، أحفظ خطه الصغير المنمنم، الذي يدل على شخصيته المرتبة، وعلى تنظيمه الشديد، وعلى مثابرته حتى يخرج خطه بذلك التنظيم. كان يقول لي لا تتردد في إعادة صياغة جملة، أو في تصحيح خطأ لغوي، والأهم أن تقول لي رأيك بأمانة بعد أن تقرأ. كنت أندهش من قدرته المرعبة على الإنتاج. أتخيل أنه كان يكتب أكثر من عمل في وقت واحد، رغم أنه كان يقول دائماً إنه لا يبدأ عملاً إلا بعد أن ينتهي من آخر، وأحياناً كان ما يفصل عملين ضخمين شهور قلائل، وكنت أقول له ذلك، فيضحك: "الكتابة وسيلتي لمقاومة النسيان، لا يمكن أن يمر يوم بدون أن أكتب، والمرض عائقي الوحيد"، كان يبحث دائماً عن كتابه الأفضل، وقال لي قبل رحيله بشهور: "أرسلت إليك: حكايات هائمة، أعتبره خلاصة تجربتي"، لم يعجبني التعبير، لم يستخدمه مطلقاً قبل ذلك، كأنما يشير إلى انتهاء تلك التجربة، أو اقترابها من النهاية، ولكنني لم أناقشه، ورحبت بكلماته، ما زال صوته المميز خصوصاً في الشهور الأخيرة التي كان بيننا خلالها شبه اتصال يومي، يرن في أذني، ضحكته المجلجة، عدم اكتراثه بالشبح الذي يطارده، أو بشكل أدق محاولته تجاهله، إقباله الشديد على الحياة محاولاً الاستمتاع بكل لحظة فيها، رغم الندوب التي تركتها الحياة على جسده. كان الغيطاني إنساناً كبيراً، ما زلت حتى هذه اللحظة أذكر موقفه مع حارس إحدى المقابر في الأقصر. كان يخطو أمامنا، وأعطى التصريح للعامل، وكان شخصاً بسيطاً يرتدي "جلباباً"، والحارس بدون أسباب عبس، وقال إن دخولنا ممنوع، وسأله الغيطاني بدهشة حقيقية: "لماذا؟!"، فقال: "لا بد أن أوقع لك ذلك التصريح"، وسأله الغيطاني بدهشة شديدة ولكنها ممتزجة بالاستنكار بعض الشيء: "أنت؟!"، ثم انتبه إلى أن ذلك الشخص النرجسي داخله ربما يتسيد الموقف، فقمعه سريعاً سريعاً، واتجه إلى الحارس محيطاً كتفه بذراعه وقائلاً بود شديد: "ده يشرفني"، وانتظر بصبر حتى وقع الحارس، وشكره ومضينا. رحم الله الغيطاني.