الخميس 10 ديسمبر 2015 / 08:55

في أسس النهضة الإماراتية

كمال بالهادي- الخليج

يقاس تقدّم الشعوب ونهوضها بقدرتها على الفعل الحضاري الشّامل، وبقدرتها على تغيير واقع الإنسان وتنميته، فضلاً عن مراكمة الثروات التي تعدّ وسيلة ضروريّة لتنفيذ المشاريع التّنموية، وإظهار المنجزات على أرض الواقع.

وفي التجربة الإماراتيّة الحديثة، يمكن الحديث عن تغيير حضاري جوهري، يقوم على أسس نظريّة وعمليّة عدّة، إنّ التّجربة الإماراتية يمكن وصفها بالحالة الاستثنائية في الوطن العربي، لأنّ هناك دلائل كثيرة تثبت أن التّغيير الحضاري ليس مجرّد أفكار ترفع ولا شعارات، يقع التغني بها هنا وهناك، بل هي في جوهرها تغيير الإنسان، الذي هو الرأس مال الرمزي لأي مشروع حضاري كبير. هنا يمكن قراءة المثال الإماراتي، ضمن التوجهات الكبرى للشعوب التي تريد فعلاً أن تنسج طريقاً خاصاً بها، وأن تفرض نفسها بين المجتمعات الحيّة.

في العام 2015 تم تخصيص السنة لعنوان الابتكار وفي 2016 تم اتخاذ قرار حكومي بتخصيص السنة الجديدة سنة للقراءة، وبحسب تأكيد رئيس الدولة الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، فإن القراءة هي مفتاح التغيير الحضاري المنشود، حيث قال "سيبقى مفتاح الازدهار هو العلم.. وسيبقى مفتاح العلم هو القراءة.. وستبقى أول رسالة من السماء للأرض هي اقرأ". ويضيف "القراءة تفتح العقول.. وتعزز التسامح والانفتاح والتواصل.. وتبني شعباً متحضراً بعيداً عن التشدد والانغلاق، وهدفنا ترسيخ دولة الإمارات عاصمة ثقافية عالمية بامتياز.. وإحداث تغيير سلوكي دائم.. وتحصين ثقافي للأجيال المقبلة". إنّ هذا الوعي العميق من القيادة السياسية في أي دولة هو الضمان إلى مراحل متقدمة في تحقيق منجزات حضارية حقيقية.

ولعلّ الأمر ليس جديداً، فمؤسس الدولة المرحوم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان،  قد غرس ثقافة العمل والتّغيير منذ عقود، لتتأصّل القيم الجديدة التي رفعت الحالة الإماراتية إلى مشروع نهضوي متكامل. إذ يقول الراحل الشيخ زايد "يا شعب الإمارات العزيز لقد مرت علينا نحن كما مر على أهلكم، وعلى البعض منكم ظروف قاسية وحياة صعبة وحال عسير، والآن نحن في خير من الله وفير، لذلك عليكم ألا تدخروا جهداً من أجل العمل بكل ما أوتيتم من طاقات وإمكانات. وإياكم والكسل والتقاعس والتهاون فإن النعم لا تدوم إلا بالجهد والنشاط والعمل الجاد. إن واجبنا أن نوفر كل الفرص أمام مواطنينا، ليرتادوا كل الأنشطة، ونوفر لهم كل أنواع الدعم حتى يأخذوا دورهم في العمل والبناء".

إن البحث في التجارب الحضارية الناجحة لشعب من الشعوب، تدفعنا إلى الوقوف على جملة من الاستنتاجات، التي يمكن سحبها على التجربة الإماراتية. فنحن نجد أن المفكرين العرب قد حاولوا اقتباس الأفكار التي تجعل مجتمعاتنا تتقدم بوتيرة تجعلها في مصاف المجتمعات المتقدّمة. لكن مضى أكثر من قرن ونصف القرن، وحلم النهضة الحقيقية والتنمية الشاملة لم يكتمل، نتيجة عوامل ذاتية وموضوعية متداخلة ومعقّدة، عطّلت الحلم العربي الشامل. لكن هذا لا يمنع من وجود تجارب استثنائية استطاعت أن تفرض نفسها في سياق النجاح الحضاري.

في المثال الإماراتي هناك ما يمكن تسميته في القراءات العلمية للمشاريع الحضارية بقوانين الثورات الكبرى. ومن هذه القوانين نجد مفاهيم التغيير في الدولة القائمة، والوحدة كمشروع مستقبلي، والعلم باعتباره الجسر الذي لا بدّ منه للعبور إلى مصاف المجتمعات المتقدّمة.
ففي ما يتعلّق بالتّغيير في الدولة القائمة، بحسب تعبير الدكتور عبدالله العروي، نجد أن من شروط نجاح المثال الإماراتي، يكمن في استثمار القدرات المتوفّرة من أجل العمل والبناء والإنتاج، وهذه الاستراتيجيات أثبتت فعاليتها في وقت وجيز، إذ خرجت الدولة من الرهان على الثروة النفطية إلى تنويع الأنشطة الاقتصادية ليصبح النفط مجرّد عنصر من عناصر الثروة الوطنية، وهناك يمكن الحديث عن أن طاقة البترول، وقع استثمارها بالشكل الصحيح، بمعنى أنها تحوّلت إلى أداة للتنمية وليست غاية حدّ ذاتها.

 وهذه التوجهات أنجزت بقناعات ذاتية، بأن البترول ليس هو الثروة في حد ذاتها، وإنما هو وسيلة لخلق ثروات أخرى أكثر ديمومة. ولكن هذا النجاح يعبر أيضاً عن انفتاح القيادة السياسية في هذا البلد العربي على الأفكار الناجحة في العالم، وأخذ منها ما يساهم في التقدم، فيؤثر عن الشيخ زايد، قوله: "لقد أسهم الآباء في بناء هذا الوطن، وواجبنا أن نبني للأجيال القادمة، وأن نواصل مسيرة الأسلاف، وعلينا أن نستفيد من كافة الخبرات والتجارب دون خجل، نأخذ منها بقدر ما يفيدنا ونحتاج إليه وبقدر ما يتفق مع تقاليدنا ومثلنا العربية".

عنصر الوحدة مهمّ جداً في فهم تجارب التغيير الناجحة. والحقيقة أن مفهوم الوحدة، تم رفعه من قبل الأحزاب التي تحمل الأفكار القوميّة، ولكن كل التجارب انتهت إلى فشل، لأسباب تتعلق بعدم فهم للأفكار القومية المستوردة وبسبب قصور في فهم أهداف الوحدة العربيّة.

ولكن في المثال الإماراتي، كان الطريق مغايراً، فهذه الحالة الاتحادية الناجحة، جعلت من مفهوم الوحدة، عنصراً فعّالاً في مشروع تقدمي شامل، يكون في الانتماء إلى الاتحاد خياراً للمستقبل وليس مجرّد حنين إلى الماضي. والشعوب التي فهمت مصطلح الوحدة فهماً صحيحاً هي التي نجحت في تحويل "الوحدة" من حالة وجدانية إلى وضعيّة للعمل والبناء والإنجاز، والتجاوز نحو المستقبل الأفضل، حالة الاتحاد اليوم هي تعبير واضح عن أنّ الوحدة يمكن أن تكون عنصر بناء وعنصر قوّة.

الدعامة الثالثة هي العلم، والحقيقة أن الأقوال التي ذكرنا في مطلع هذا المقال تثبت الوعي العميق بأهمية العلم في بناء الإنسان العربي في الإمارات بناء مختلفاً ومغايراً. فالاستلهام من العلوم الحديثة وتنويع التجارب التعليمية مع كبرى الجامعات الدولية، لنقل المعارف وغرسها في التربة الإماراتية الخصبة، من شأنها أن تحرّر العقل والإنسان بصفة عامة من الانغلاق والتعصّب، وترتقي به إلى طلب الرّقي، وهي خطوات أساسيّة لإحداث الثورات الحقيقية الكبرى، ثورات البناء والوحدة، والتغيير. والتجربة الإماراتية استوفت هذه الشروط.