السبت 23 يناير 2016 / 19:17

الشطرنج والخيط الرفيع بين الجدّ واللعب

تشبه لعبة الشطرنج الحرب القائمة ضد تنظيم داعش الإرهابي، فهذه الحرب في غاية التعقيد كلعبة شطرنجية تحتاج من لاعبها أن يكون متبصراً، مدركاً تشابكها وتداخلها، وكرها وفرها، فالأحجار في تلك الحرب لا تتحرك عشوائياً، بل عن تخطيط ومنظور استراتيجي وتنسيق، وعلى عكس ما يحدث على رقعة الشطرنج التي تخلو من الخسائر، فذاك لعب آخر محرم ومدمر ومخرب خلّف ومازال يخلف آلاف القتلى وشرد وما زال مئات الآلاف.

ولأنّ لعبة الشطرنج هي لعبة الحرب، فتجدد طرح إشكاليتها أخيراً، عبر فتاوى تحرمها، قد يبدو مفهوماً، فهي لعبة عقلية جادة ليست مثل أي لعبة، وهناك تشابه ضمني بين الحرب المتخيلة وهو ما تمثله اللعبة وما يحرص الفقه على مناقشته، والحرب الحقيقية الطاحنة التي تعيشها المنطقة.

ويبدو من الجلي جداً أن فتاوى تحريم لعبة "الشطرنج"، من مذاهب عدة، والسابقة لفتوى مفتي السعودية الأخيرة التي أثارت سجالاً بين مؤيد ومعارض، لا تتصل بلعبة الشطرنج نفسها فحسب، بل تتعلق بموقف الفقهاء القديم والملتبس من اللعب بمفهومه الواسع الذي وقع ضحية مصطلح "اللهو" كما استعمله القرآن الكريم. وما زال "اللعب" مع "اللهو" مصطلحين غامضين يحتاجان إلى جهد ومثابرة لسبر معناهما ومقصدهما حتى تنجو الفتاوى من الالتباس وسوء الفهم وصراعات الأصل والفصل، التي تتذرع في التحريم مرة بتجنب مضيعة الوقت ومرة أخرى بضرورة تزجيته فيما ينفع والعمل المستمر في الحفاظ على الجهد حتى لا يضيع سدى، وما الشطرنج عند فريق من الفقهاء إلا لَهْو ولعب لا فائدة مرجوة منه ولا نتائج إيجابية مرتقبة له، ولذلك فهي محرمة سواء أكانت لعباً بالمال أو بدونه، أو كانت بلاعبين اثنين حقيقيين، أم مع جهاز الكمبيوتر في لعبة افتراضية أو مع عدة لاعبين افتراضيين في فضاء الإنترنت.

لقد عرف العرب، مثل غيرهم من الأمم, هذه اللعبة العريقة التي تعود جذورها إلى أصل سنسكريتي، وكان للهنود فضل اختراعها، ومن خلالها أدركوا قيمة الحفاظ على الأمن والاستقرار، وأهمية التحصين والدفاع عن الأنفس، وتتضمن اللعبة جذر "شطر"، فهي بذلك تتصل بالمشاطرة التي لا عداوة فيها بين اللاعبيْن، إذ كل واحد منهما يتعرف على ذكاء الآخر وإدراكه، وبعض العرب يوصلها بالسطر، فتصبح سطرنج، بما أنها مقسمة إلى سطور في مربع، وهي بذلك توحي باتصالها بنظام الكتاب المكون من سطور. وقد عرف العرب هذه اللعبة قبل الإسلام، إلا أنها استمرت ملهمة لهم، بل ارتبطت بفلسفة الجمال والإبداع والتأمل والتفكر، وعليه جرى العرف بأن من امتلك قديماً الخبرة الواسعة بها، فإنه يقرب من الخلفاء ويصبح نديماً لهم.

وظلت لعبة الشطرنج ذات فائدة عند العرب القدماء، أليست هي لعبة الحرب كما يسميها الجاحظ؟ وبفضل التسمية هذه تسابق رجالات الدولة على تبصرها، ذلك لأنها من محفزات التفكير والتنبيه على وجوب التحرز من الأعداء والإشارة إلى صورة الحيلة في المكائد، وهذه المحفزات مجتمعة قد جعلت العرب القدماء يؤلفون فيها كتباً كثيرة ويثنون على أفضالها الجمة التي غابت عن الفقهاء المعاصرين.

وبصرف النظر عن الفتاوى والآراء الفقهية التي تحتمل دوماً أكثر من قراءة وتأويل، فإن من الخطأ تعميم فكرة أن هناك تناقضاً بين اللعب والجد، إذ أن الشطرنج هي في ظاهرها لعبة، إلا أنها في منتهى الجدية، تماماً مثل التعليم الذي في جوهره أمر جاد إلا أن تفجير طاقاته يحتاج في كثير من الأحيان إلى التقاط جوهره المرح القائم على اللعب والتجريب.

وعلى الرغم من القوانين الصارمة للشطرنج, فإنّ اللاعب الماهر يتحايل على شروطها الحديدية وقواعدها المنضبطة، فيخرجها من نمطها المعتاد والمألوف إلى عالم آخر تنعتق فيه من قيود الجدية التي تعذب الإنسان إلى بحيرة الحياة العذبة، المليئة بالضحك والمرح الذي يرد للروح صفاءها فيغسلها مما علق بها من وحشة الجدية المفرطة، وهذا ما فعله على سبيل المثال الشاعر الهمام في القصيدة المنسوبة إلى امريء القيس، التي يقول فيها:

وَلَاعِبْتهَا الْشِّطْرَنْج خَيْلِي تَرَادَفَت
وَرَخِي عَلَيْهَا دَار بِالْشَّاه بِالْعَجَل
وَقَد كَان لَعِبِي كُل دَسْت بِقُبْلَة
أَقْبَل وَجْهَا كَالْهِلَال إِذَا أطَل
فَقَبِلَتْهَا تِسْعا وَتِسْعِيْن قُبْلَة
وواحِدة أُخْرَى وَكُنْت عَلَى عَجَل ..

وبذلك فإن الشاعر القديم استطاع أن يحول لوحة الشطرنج إلى مائدة عامرة بالملذات والمسرات، وهو بذلك يؤكد أن فضل العرب كان كبيراً في تطوير لعبة الشطرنج من كونها لعبة ذكوريّة إلى لعبة قد يتشارك الرجال والنساء فيها، بل أكثر من ذلك، فإن الشاعر استطاع أن ينجو بنفسه من وهج التركيز ورتابة التفكير ويذهب إلى تلك اللحظة الحسية الجمالية المليئة بالعشق والامتزاج الذي فيه ما فيه من التأني من جهة والعجلة من جهة أخرى، ومثل هذا الأمر، قد أدركه أبو إبراهيم العلوي خصم أبي الطيب في لعبة الشطرنج، وأكد ضرورة أن يعتني اللاعب بجمال أصابعه ونظافتها، ولعل هذا الأمر طرأ بباله بينما كان يلعب الشطرنج مع أبي الطيب المتنبي، فرأى أظافر أبي الطيب طويلة، وأنكر عليه ذلك، فقال أبو الطيب: أنا رجل أمارس السلاح، وهذا الأمر نفسه ما يجعل أبو الطيب شطرنجياً بامتياز، يدرك بأن للشطرنج استعداداً خاصاً، واللاعب وإن أبدى اهتماماً بلعبة الشطرنج فإنه في الأساس يهتم بالطرف الآخر الذي يلعب معه، يقول أبو الطيب؛

وأوهم أن في الشطرنج همي
وفيك تأملي ولك انتصابي

ولا أبالغ إن قلت بأن شعر أبي الطيب القائم على الحكمة والتأمل والنظام الصارم، كان بفضل مواهبه الكثيرة وعلى رأسها موهبته الفذة في الشطرنج التي أكسبته القدرة على التحايل اللغوي والإبداع في الحكمة والفروسية ولو أنه أحياناً يظهر بأنه يفضّل ساحة الحرب الحقيقية على الساحة الشطرنية المتخيلة. ولست أحب أن أترك هذا الحديث قبل أن أتحدث عن رائية ابن الرومي الشهيرة وعتابه لصديق له هو أبو القاسم الشطرنجي، الذي يصف نبوغه في هذه اللعبة التي تتحول إلى ساحة حرب:
ربَّمَا هَالَنِي وَحَيَّرَ عَقْلِي

أَخْذُكَ الْلَاعِبِينَ بِالْبَأْسَاءِ

وَرِضَاهُمْ هُنَاكَ بِالنِّصْفِ وَالرُّبـْ

ـعِ وَأَدْنَى رِضَاكَ فِي الْإِرْبَاءِ

وَاحْتِرَاسُ الدُّهَاةِ مِنْكَ وَإِعْصَا

فُكَ بِالْأَقْوِيَاءِ وَالضُّعَفَاءِ

عَنْ تَدَابِيرِكَ اللِّطَافِ اللَّوَاتِي

هُنَّ أَخْفَى مِنْ مُسْتَسِرِّ الْهَبَاءِ

بَلْ مِنَ السِّرِّ فِي ضَمِيرِ مُحِبٍّ

أَدَّبَتْهُ عُقُوبَةُ الْإِفْشَاءِ


وقد سبق لطه حسين أن عدّ التشبيه الوارد في البيت الأخير، من التشبيهات الرائعة، عندما يرى أنّ نبوغ أبي القاسم نبوغ خفي لطيف كأنه السر في ضمير العاشق الذي يعاقب إن هو أفشى سره. ثم يصف براعة صاحبه فيقول:

تَقْتُلُ الشَّاهَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الرُّقـْ

ـعَةِ طَبًّا بِالْقِتْلَةِ النَّكْرَاءِ

غَيْر مَا نَاظِرٍ بِعَيْنِكَ فِي الدَّسـْ

ـتِ وَلَا مُقْبِلٍ عَلَى الرُّسَلَاءِ

بَلْ تَرَاهَا وَأَنْتَ مُسْتَدْبِرُ الظَّهـْ

ـرِ بِقَلْبٍ مُصَوَّرٍ مِنْ ذَكَاءِ

مَا رَأَيْنَا سِوَاكَ قِرْنًا يُوَلِّي

وَهْوَ يُرْدِي فَوَارِسَ الْهَيْجَاءِ

وَالْفُؤَادُ الذَّكِيُّ لِلمُطْرِقِ المُعـْ

ـرِضِ عَينٌ يَرَى بِهَا مِنْ وَرَاءِ

تَقْرَأُ الدَّسْتَ ظَاهِرًا فَتُؤَدِّيـ

ـهِ جَمِيعًا كَأَحْفَظِ القُرَّاءِ


وعلينا أن نتأمل التشبيه في البيت الأخير حيث يقارن ابن الرومي بين حفظ أبي القاسم لرقعة الشطرنج وحفظ القراء للنص القرآني الكريم.
فالموقف التراثي من لعبة الشطرنج يسبح في فلك خاص بعيداً عن واقع الحياة الاجتماعية، فلا يجهل مكانة الشطرنج عند القدماء من المفكرين والأدباء والقادة والخلفاء، ويصدر عن شكلانية خالصة تفرغ الأمر من محتواه ولا تدرك المنزع العقلي والوجداني عند الناس.

يحمل تحريم الشطرنج إذن أفقاً مركباً يتشابك مع ضروب متفرقة من التشاؤم والكآبة والجد المصطنع والتأويل المبالغ فيه الذي يربطها بالأزلام، ليقف كل ذلك سداً منيعاً من فهم فلسفة "اللعب" كونها تمثل عنصراً جوهرياً من عناصر تقدم الحضارة وتطورها، الحضارة التي يمقتها مقتاً شنيعاً تنظيم داعش الذي كان أول من حارب "اللعب" وأخرج كل عقده الوحشية حيّز الفعل، فأغلق في سبتمبر من العام المنصرم أماكن لعب الأطفال في مدينة الميادين شرق محافظة دور الزور السورية بل وحرم الشطرنج في رمضان الفائت.

لقد كان للعب مكانة كبيرة في الحياة الاجتماعية في صدر الإسلام، ولعل السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها هي أهم من لفت الأنظار إلى قيمته، إذ اشتهرت بحبها للعب مع "البنات" أي الدمى، ومرة، سألها الرسول الكريم: ما هذا؟ فأجابت رضي الله عنها "بناتي"! ورأى الرسول بينها فرساً مربوطاً، له جناحان، فقال: (ما هذا؟!)، فردت عائشة: "فرسٌ"، قال: (فرسٌ له جناحان؟!)، قالت: "ألم تسمع أنه كان لسليمان خيلٌ لها أجنحة؟" فضحك النبي صلى الله عليه وسلم.