الخميس 11 فبراير 2016 / 21:47

بالنسبة لبكرا.. "ولا شي"

"بالنسبة لبكرا شو؟" في السينما. مسرحية زياد الرحباني التي عُرضت عام 1978 تحولت إلى الشاشة الكبيرة. وصلت الإمارات بعد أن حققت أرقاماً قياسية في بيروت. كل الإشادات لا يمكن لها أن تمحو رداءة صورة زياد الرحباني اليوم. فصل الموقف الإنساني عن الفنان الذي وراء هذا العمل المسرحي أكثر من صعب. هكذا، يُصبح التردد بمشاهدة العرض هو الطاغي. الرحباني، الذي لا يُشبه ما "كان من جانب إنساني" في عمله المسرحي، كيف يُمكن أن يمرّ بعد كل هذه السنوات من إيمان بحكمة الديكتاتور.

حتى المسرحية، الآتية من زمن الحرب اللبنانية، لماذا على المرء أن يشاهدها، طالما هي من ماضٍ مضى، أقله في نفس كثيرين ممن خرجوا من شعارات تلك المرحلة، التي لم تتسبب سوى بالويل. فتحت ستار محاربة الإمبريالية، صار القتال والاقتتال على الهوية. والاحتراب الأهلي لم يكن مع الدولة أو ضدها، بل بين "مجتمعات" تريد الدولة لنفسها. من يمين ويسار، "جبهة وطنية" أو "مقاومة لبنانية". لماذا اليوم، وبعيداً عن لبنان وأزماته وعجزه، على المرء أن يخاطر ويستعيد ذكريات تخلّص منها؟

هي أسئلة مشروعة، أسئلة قد تُضعف الرغبة، لا بل قد تؤثر مسبقاً على الموقف من العمل المسرحي الذي تحوّل إلى السينما. هكذا كانت أجواء ما قبل العرض. لكن، العرض وما بعده أسقط الكثير من هذه القرارات الاستباقية، التي تمزج الموقف من زياد الرحباني سياسياً، بما هو فنّي. وتخلط بين الخلاص من عبء الانتماء إلى مجتمعات متناحرة، وقراءة هذه المجتمعات في الزمان والمكان المناسبين، أي قبل أكثر من ثلاثين عاماً.

العمل المسرحي لم يصل إلى فئة كبيرة من اللبنانيين سوى سمعياً. فئات كبيرة لم يصلها بالمرّة. العودة إليه، في السينما، مغرية للتعرف على شخصيات رسمها كُثر في مخيلتهم دون أن يرونها ويقيّموا أداءها. وهكذا كان. العرض، بوضعه في سياقه الزمني، مسرحياً، وإنتاجياً، متعة بكل ما للكلمة من معنى. محاولات ترميم الصورة والصوت لا يمكن أن تكون أفضل من ذلك. التصوير المبتدئ، والتقنية "البسيطة" آنذاك، يُسقطان كل انتقاد ممكن أن يوجه إلى من أعاد إحياء المسرحية بصرياً. لا بل المجهود المبذول أكثر من واضح. مشاهدة هذه الصورة تحديداً، هي التي تضع العمل ككل في زمانه الصحيح. عام 1978، في عام 2016.

يتلاشى الحكم المسبق على العمل، حين يبدأ البصر بالتفاعل مع شخصيات المسرحية، من نجيب إلى ثريا فزكريا وأنطوان ورامز. زياد الذي يعرف جيداً كيف يُقدم ما كتب وما أنتج من أفكار، ونبيلة زيتوني التي تركت بصمتها كأكثر شخصية حقيقية ومعبرة في الوقت نفسه. ورفيق نجم الاكتشاف المتأخر على الخشبة. وغيرهم ممن يكملون العمل، ببراعة يفتقد المسرح اللبناني لها اليوم.

ورامز، وحده يستحق المشاهدة، لا بل إحياء المسرحية تعطيه حقه الضائع في مكان ما. جوزيف صقر، مسرحية داخل مسرحية. مطرب يصل إلى الإحساس من دون استئذان. ممثل لا يحتاج إلى جهد كبير كي يلبس دوره تماماً بل أكثر مما رُسم إليه. يرسم جوزيف صقر الابتسامة، حين يتكلم، ويرسم أكثر منها حين يغنّي. يستحق أن يُرمم هذا العمل من أجله، من أجل هذا التاريخ الماضي، الواقف أمام منزل كل لبناني إلى الآن. بهدير، وبوسطة، ورضا الذي لم يسمع منذ عشرات السنين.

لكل دوره الذي يلعبه باتقان. شخصيات ظلت مخفية إلى اليوم، بالنسبة لجيل كامل. تجميعها سمعياً لم يكن وارداً. التعرّف عليها، يجعل العمل الفني أكثر من محترف. ممثلون يقدمون أقصى ما لديهم. بل، ممثلون يقومون بدورهم وكأنه من صلب يومياتهم. ضحك ممزوج بجد وتراجيديا، لتصل الرسالة بأسلس ما يُمكن. وأمام شاشة في سينما عصرية، تأتي الصورة من "عالم صورة" عفا عنه الزمان، لتُقدم كل ما يريده المشاهد من عودة إلى الأصل، إلى ذلك التاريخ، إلى مقهى في زاروب الحمرا، إلى ذاكرة مضت هنا ولم تمض هناك.

في المسرحية القديمة ما هو مُستمر إلى يومنا هذا. صراع طبقي هو هو لم يتغيّر وعجز دولة عن تقديم الحد الأدنى من متطلبات الحياة. والبعد الإنساني أيضاً، يبقى صالحاً لكل وقت. وهو في ساعتين وأكثر، يصل بأسلوب ساخر، سريعاً، دون أن يغادر بتلك السهولة.

بعد أكثر من 38 عاماً، مضى الكثير من "بكرا"، و"ثريا" هي هي، تسأل، "بالنسبة لبكرا، شو؟" على الأرجح: "ولا شي".