السبت 19 مارس 2016 / 19:15

السلطة السياسية والأدب.. أي علاقة بينهما؟

في سياق رده على تساؤل مفاده: لماذا كان الإبداع الأدبي في فترة الستينيات بمصر أكثر غزارة منه في فترة السبعينيات، مع أن هامش الحرية، خلال الأخيرة، كان أكبر من الأولى، والأدب يحتاج إلى مناخ حر؟ قال نجيب محفوظ: "إن المبدعين في السبعينيات كانوا أحراراً، في أن يقولوا ما يشاءون في أحاديثهم ومقالاتهم، وهو ما جنى على الجانب الإبداعي لديهم، حيث لم تكن أمامهم تحديات كتلك التي وجدت في الستينيات، والتي قادت إلى إنجاز الأعمال الإبداعية، بما فيها من رموز وإسقاطات للتعبير عما يريدونه".

إن هذا القول يطرح مسألة العلاقة بين السلطة السياسية والأدب على بساط البحث، وهو بقدر ما يدحض بعض المقولات السائدة بأن الإبداع الأدبي يحتاج إلى قدر من الحرية السياسية، فهو يقدم الأدب بوصفه نوعا من المقاومة بالحيلة للقهر الذي تمارسه هذه السلطة على الجماهير، أو مجالا لتنفيس المثقف عما يكنه في ضميره تجاه السلطة، ولا يستطيع أن يقوله بشكل مباشر، خوفا من المساءلة.

فاللجوء إلى الرمز، وتغيير ملامح بعض الشخصيات، وإعطاؤها أسماء غير أسمائها، وإضفاء بعض الخيال على الأحداث، أو العودة إلى وقائع تراثية وإسقاطها على الحاضر في ثوب قصصي، أو صناعة بطل منقذ يقفز فوق الواقع المتردي ويأخذ بيد الناس إلى مجتمع أفضل، يجعل المثقف أكثر أمانا في مواجهة القوانين، التي تسنها السلطة للحد من حرية التعبير.

والمقاومة بالحيلة تواجه الإذلال والحرمان والإهانات بتطوير ثقافات مستورة، تعد بمستقبل أفضل، سواء كانت "دينا شعبيا"، أو "أساطير" عن عصبة أو بطل فردي أو حلم بحاكم عادل. وحين ينتقد الأدب السلطة بشكل غير مباشر، ويواجه فسادها، ويفضح نقائصها ويؤرخ للمقهورين، ويسخر من الطبقات، أو الفئات، المتحالفة مع الحكم الغاشم، يصبح شكلا من أشكال المقاومة بالحيلة، خاصة حين يلتحف بالرمز، ويبتعد عن المباشرة.

وتتدرج تلك الحيلة بين النقد اللاذع والنصح المبطن، وهذا أمر ليس بجديد على الأدب، فهناك مخطوطة عربية مجهولة المؤلف بالمكتبة الوطنية بباريس يرجح عودتها إلى القرن الثالث عشر الميلادي تحمل عنوان، "رقائق الحلل في دقائق الحيل"، لم يعتمد كاتبها في نصحه للحكام على الأسلوب المباشر الذي اتبعه ميكافيلي، إنما سلك درب الحكاية والقصة كوسيلة لتعليم الحكام فنون الإدارة والحكم، وقسم حكاياته، إلى حيل الملائكة والأنبياء وأدعياء النبوة والملوك والسلاطين والوزراء والقضاة والفقهاء والعباد والزهاد، ليحذر من خلالها الحكام من مغبة الظلم والاستبداد، ويبصرهم بالفوائد العظيمة التي تترتب على حكمهم بالعدل.

لكن ما تقدم لا يعني أن الأدب لا يمكن أن يكون إلا تحايلا فقط في مواجهة السلطة، وفي الوقت ذاته لا يعني أن هناك ثمة علاقة طردية بين القهر السياسي وخصوبة الإبداع الأدبي. فالأدب طالما كان مواجهة مباشرة بين المثقف والسلطة.

فعلى سبيل المثال، لا الحصر، يتداعى إلى الأذهان، في هذا المقام، الدور الذي لعبه الأدب في تقويض أركان النظم الشيوعية في أوروبا الشرقية، فهو لم يكن بعيدا عن الثورة التدريجية التي شهدتها المجر، نهاية عام 1989، وبداية عام 1990، وقادتها إلى أول انتخابات حرة. والكاتب المسرحي فاتسلاف هافيل، الذي وصل إلى رئاسة تشيكوسلوفاكيا سابقا، قدم مثلا مهما على إمكانية أن يصبح الأديب سياسيا بارزا.
وفي رومانيا، شكل الأدباء المغبونون عاملا أساسيا من عوامل الثورة على نظام شاوشيسكو الفاسد. وساهم الأدباء في التمهيد للثورة الفرنسية، في حين أدت رواية "كوخ العم توم" للروائية الأمريكية هارييت بيتشر إلى إشعال الحرب الأهلية في الولايات المتحدة لأنها رصدت الحياة القاسية التي يعيشها السود. وفي عالمنا العربي، قاوم شعراء، مثل أمل دنقل، ومظفر النواب وأحمد مطر، السلطة المستبدة بقصائد مباشرة، لم تكن، بأي حال من الأحوال، تحايلا، مما صبغ علاقتهم مع الحكام بالعداء الشديد.

وفيما يتعلق بتأثير نمط السلطة على الأدب، لا يمكن أن نأخذ رأي نجيب محفوظ، المشار إليه سلفا، على علاته. فبداية، إذا كان هناك اتفاق بين كثير من النقاد على وجود علاقة ضرورية بين البنية السياسية لأي مجتمع وأدب هذا المجتمع، فإنهم مختلفون حول ما إذا كان توجه النظام السياسي يؤثر على مضمون وشكل العمل الأدبي، أم على المضمون فقط. ويمتد هذا الخلاف إلى ما إذا كان الأدب يزدهر مع التسلط، كما ذهب محفوظ، أم لا.

فمن ناحية الشكل، هناك دراسة مهمة أعدها أبو الحسن سلام حول "السلطة المطلقة بين الحاكم والراوي في المسرح العربي" قارن فيها بين طبيعة سلوك الحاكم المطلق والراوي المسرحي، وانتهى إلى أن نمط السلطة المطلقة للحاكم في المجتمعات المتخلفة، ينعكس على شخصية الراوي، ووظائفها في المسرحيات، التي بني فيها الحدث على راو، حيث تحول الراوي من دور الوسيط بين المتلقي والنص إلى دور المتسلط على شخصيات المسرحية، وانتهى الباحث إلى القول بأن التسلط صناعة تتم في المسرح كما تتم في المجتمع.

وبالطبع فإن ما ينطبق على المسرح، في هذا المضمار، يمكن أن ينسحب على الرواية، خاصة في الجوانب المتعلقة بالحوار داخل العمل الروائي. فهناك أديب يترك أشخاصه يعبرون عن أنفسهم بحرية، داخل الرواية، وهناك أديب يتدخل في العمل، ويجبر شخصياته على أن يسلكوا درباًمعيناً.

ويرد البعض موقف الأديب هذا إلى إحساسه بطبيعة السلطة القائمة في المجتمع. فهذا الإحساس ينعكس مباشرة على طبيعة تعامل بعض المبدعين مع شخوص قصصهم ورواياتهم، وهنا يقول محسن جاسم الموسوي، في دراسة له "حول مفهوم الشخصية والبطولة في الرواية العربية" إن الفنان وفي فترة وعيه بديمقراطية المجتمع يمنح أفراده تميزا واضحا كشخوص لا كنماذج، لا بواسطة الرسم المتكامل للصفات والخصائص فحسب، بل بواسطة شمول النظرة، وتعدد زوايا السرد، أي تعدد الأصوات داخل العمل الأدبي، في حين أن ظروف القهر تتجلى في بعض الأحيان، في النظرة الروائية، فيمحو الروائي شخوصه، معلنا ضمنا أن ظروفا كهذه لا تتيح للفرد متنفسا، لكي ينمو.

ومن ناحية المضمون، فإن النظام الديمقراطي، بقدر ما يعطي للإنسان العادي اعتباره السياسي والاجتماعي، فإنه يمنح الأدباء فرصة، كي تنمو لديهم "الواقعية الفنية"، التي تعني القدرة علي كشف حقيقة الإنسان في المجتمع، والاعتناء بالبشر العاديين سواء كانوا أخيارا أم أشرارا، والتصدي لأي ظلم يقع عليهم، ومقاومة الفساد السياسي، الذي يضر بمصالحهم.

 والديمقراطية لا تجعل الرواية قادرة على الذهاب بعيدا في تجلية الواقع واستكشاف الأصقاع المجهولة داخل المجتمعات فقط، بل أيضا، تُمكّن الكتابات النقدية من النفاذ إلي أعماق القضايا السياسية والاجتماعية، دون الخوف من الرقابة والمصادرة، وتزيل الحواجز المصطنعة أمام انتشار الأعمال الأدبية، بما فيها تلك التي توجه انتقادات حادة للسلطة السياسية. وتجعل الديمقراطية كل مواطن قادر على الانتقال من التلقي إلى الإنتاج، والتعبير عن نفسه وأفكاره وإبداعاته، بالطريقة التي يختارها، ويتعرض للمسائل التي يريدها.

وعلى وجه العموم، فإنه لا يمكن الإلمام بعلاقة الأدب بالسلطة السياسية دون التعرض، لمفهومين مهمين في هذا السياق، وهما "أدب السلطة" و "سلطة الأدب". فإذا كان قد سبق التعرض للأدب على أنه "خطاب" معارض للسلطة الحاكمة، سواء عبر التحايل، أم بالمواجهة المباشرة، فإن هذه الصورة لن تكتمل دون التطرق لسلطة الأدب.

ويستمد الأدب سلطته من صعوبة السيطرة عليه، فكما يقول برتولد بريخت "لا يمكن للسلطة السياسية أن تستولي على الأعمال الإبداعية، كما تستولي على المصانع، كذلك لا يمكن الاستيلاء على أشكال التعبير الأدبي، كما يتم الاستيلاء على الرخص والتصاريح".

فرغم القيود التي تفرضها بعض السلطات الحاكمة على حرية التعبير، فإن الأدب يمتلك، ربما أكثر من غيره، قدرة على تطويق هذه القيود، ومقاومتها، فهو يتصدى للإكراه، ويحطم كل سلطة، حين ينفتح على الخيال، من أجل توليد المتعة، وخلق الوعي.

 كما أن الأدب، في النهاية، هو نوع من الخطاب، الذي ينازل خطاب السلطة، في إطار المساحة التي تقاوم فيها سلطة المعرفة، بكل مقوماتها التي عرضها المفكر الفرنسي ميشيل فوكو، السلطة المادية التي تضغط في اتجاه إخضاع الإنسان لمنطقها ومصالحها.

  كما يستقي الأدب سلطته، كذلك، من "سلطة المثقف"، التي رغم تشكيك البعض فيها، بحديثهم عن "موت المثقف"، أو تدجين السلطة له، فإنه لا يمكن إغفالها تماما، مع توقع انبعاثها في أي لحظة تاريخية، ومع الإيمان بأن النهضة الثقافية تسبق أي نهضة اقتصادية واجتماعية. والأديب، في النهاية، هو مثقف، له موقف من السلطة، ويحاول أن يمارس دوره في المجتمع، الذي يعيش فيه. وهو بقدر ما يكون جادا في ممارسة هذا الدور، وبقدر ما ينحاز للقيم النبيلة، وينشد الوضع الأفضل لمجتمعه، يصنع سلطته الخاصة.

وسلطة المثقف هي من نوع آخر، بمعنى أنها ليست سلطة مادية، بل رمزية، أي سلطة الكلام والكتابة، لكنها في النهاية سلطة تُمارس على النفوس والعقول، بواسطة المنتج الرمزي، المتمثل في الأفكار والمعارف أو في العقائد والطقوس وهذه السلطة تؤدي هذا الدور منذ زمن العراف، حتى وقت المثقف الحديث، مرورا بالكهنة والقساوسة والفقهاء.

وحين يعي المثقف حقيقة دوره الاجتماعي، ويحرص على تأديته بأكمل وجه، فإن اصطدامه بالسلطة يصبح واردا إلى حد كبير. ويكون هذا الصدام بحجم الهوة التي تفصل بين الحلم الذي يراود المثقف والواقع الذي تعيشه السلطة السياسية بالفعل. فمن المفترض أن يصوب المثقفون أهدافهم إلى أبعد مرمى يرونه، ويطالبون الحكام أن يصلوا معهم إلى تلك النقطة، وإذا ما وصلت السلطة، بعد جهد وصراع، إليها، يكون المثقف قد رابط عند نقطة أبعد، ليطالب السلطة مجددا أن تتبعه، وهكذا، في رحلة لا تنتهي، بحثا عن وضع أفضل للمجتمع.

لكن بقدر ما يستمد الأدب جزءاً من سلطته من السلطة الاجتماعية للمثقف، فإن الأخير، وفي المقابل، يساهم أحيانا في الحد، ليس من سلطة الأدب، فحسب، بل من سلطة المعرفة ذاتها، وذلك حين يتمكن السياسي من تدجين الأديب، واجدا ما يسمي بأدب السلطة. فالسياسي مهتم أساسا بالأدب المؤسسي، أو الرسمي، الذي يكرس ما هو قائم، وهو أدب المديح، كما يسمى في تاريخ الأدب العربي؛ ليتحول الأديب إلى بوق إعلامي، ويفقد أي هامش من الحرية، مهما كان ضيقا.

وهذا ما يمارسه الأديب المنصاع والانتهازي، والحالم بالسلطة، والسياسي الذي دخل لمجال الأدب عنوة، ليوظفه في خدمة أغراضه السياسية.
ولا يقتصر هذا الأمر على سياسيي الأنظمة المحافظة، بل يمتد إلى نمط الحكم الثوري، الذي يرى في الأدب قوة من ضمن القوى الأخرى، التي يجب أن توضع في خدمته، ألا وهي، قوة التحريض والترويض، قوة الإعلام التي تحرك الرأي العام وتوجهه. فالخطابة هي الجنس الأدبي الأقرب إلى ذوق الثوار، حيث أنها ذات تأثير مباشر في الجماهير. والخطابة، في طريقتها ومضمونها، ما هي إلا لغة أدبية، ذات طبيعة شعرية، من حيث اعتمادها على الاستعارة والكناية.

وبالطبع فإن المثقفين، ومن ثّم الأدباء، ليسوا فريقا واحدا من حيث علاقتهم بالسلطة السياسية والطبقات الاجتماعية. وفي هذا المضمار توجد عدة اتجاهات، فأصحاب الاتجاه الوظيفي Functional Approach اعتبروا أن المثقفين المستقلين لديهم قدرة على أن يكونوا أكثر تآلفا مع البناء الفوقي، وأكثر تكاملا مع الطبقة الوسطى، الأمر الذي يؤدي لنمو طبقة مثقفة معتدلة.

ويعارض الماركسيون الجدد New Marxists التوجه السابق، ليروا أن انغماس المثقف في البناء العلوي المنظم من قبل الدولة، يفقده استقلاله، ولا يصبح عضوا في الطبقة الوسطى، بل مجرد أجير، ينتمي للبروليتاريا. وهناك اتجاه ثالث، يقوده كارل مانهايم، يرى أنه يمكن النظر للمثقفين باعتبارهم فئة بلا انتماء طبقي محدد، إذ أنهم يتشكلون من مختلف الطبقات الاجتماعية، ولذا فإن أفكارهم ليست نابعة من تحيز طبقي، كما هو الحال بالنسبة للعمال وأصحاب العمل. وهذا الوضع يمكن المثقف من النظر للأمور بطريقة محايدة.

لكن أصحاب نظرية الصفوة Elite Theorists مثل باريتو وموسكا وميتشيلز، أكدوا أن المثقفين تبدو لديهم نزعات تسلطية، واتجاهات غير ديمقراطية. ويتجلى أفضل مظهر لتلاحم المثقف مع طبقته، فيما أطلق عليه المفكر الإيطالي أنطونيو جرامشي "المثقف العضوي"، إذ يرى أن كل مجموعة اجتماعية ، ومن منطلق وظيفتها في عالم الإنتاج الاقتصادي، تخلق معها، عفويا، فئة أو أكثر من المثقفين الذين يمنحونها التجانس والوعي بوظيفتها، ليس في الميدان الاقتصادي فحسب، بل في الميدان السياسي والاجتماعي.

ما سبق يوضح بجلاء أن الأدباء ليسوا جبهة واحدة في مواجهة السلطة، ومن ثّم فإن إنتاجهم، لا يمثل كله بالضرورة أداة لكبح جماحها، فمن بينهم من له مصالح اقتصادية واجتماعية، يحرص عليها، ومن بينهم من يخشى على نفسه من بطش السلطان، ولذا فإنه يلجأ لتطبيع علاقته معه. وهنا يفرق الناقد الماركسي جورج لوكاتش بين ثلاثة أنواع من الأدب، تمثل دوائر متقاطعة في الغالب، الأول، أدب الدفاع عن النظام القائم وتقريظه. وهذا النوع يكون أحيانا معاديا للواقعية الأدبية معاداة صريحة، ويلبس أحيانا ثوبا واقعيا مزيفا. والثاني أدب "الطليعة المزعومة"، وهو يبتعد عن النزعة الواقعية ، ويحرص على تصفيتها، على الدوام. والثالث أدب "الواقعيين الكبار"، الذين يسبحون ضد تيار الأدب، الذي تتبعه الفئتان المذكورتان آنفا.

في كل الأحوال يتيح الأدب، بوصفه شكلا للإنتاج الثقافي، أكثر من غيره للكتاب أن ينتقدوا الأوضاع القائمة، دون أن يتركوا وراءهم دليلا ملموسا، يعرضهم للمساءلة، أمام القوانين الكثيرة التي تسنها السلطة لحماية نفسها، وتكريس وجودها، والدفاع عن مصالحها المادية. ولذا سيظل أداة مهمة في يد المثقفين في مواجهة السلطة في كل زمان ومكان.

ولا يقتصر الأمر على أدب النخبة فقط، من شعر وقصة ومسرح، بل يتجلى بشكل أوضح في الأدب الشعبي. فالمواويل والأمثال والسير والأغاني التي تجود بها القريحة الشعبية، تمثل منفذا للبسطاء ينتقدون منه الأوضاع الاجتماعية، التي لا تروق لهم، ويسخرون من السلطة، التي لا تعدل بينهم، ويحلمون بحياة أفضل من تلك التي يعيشونها.