فواز طرابلسي(أرشيف)
فواز طرابلسي(أرشيف)
الثلاثاء 18 يونيو 2013 / 22:20

"الديمقراطية ثورة" لفواز طرابلسي: أسئلة اللحظة الراهنة

يذهب فواز طرابلسي في كتابه "الديمقراطية ثورة" (دار رياض الريّس – 2012) إلى عمق أسئلة اللحظة الراهنة، طارحاً أمام الانتفاضات العربية أسئلة فكرية ثورية. وعلى الرغم من أن غالبية دراسات ومقالات كتابه كُتبت أساساً للصحافة، إلا أن ارتباطها الوثيق بالمشهد والوقائع، بسبب الهم الأخلاقي المحمولة عليه، يجعلها تتجاوز شرطها لتنفذ إلى جوهر ما يجري، وربطه بسياقه. الأمر الذي يمنحها القدرة على الاستشراف والتبصّر بما هو آت. وهي أسئلة نحتاجها الآن بمقدار حاجتنا إلى بوصلة.

يُنهي طرابلسي القسم الأول من الكتاب بدراسةٍ عن إدوارد سعيد يحاول فيها إنقاذ فكر سعيد من اختزاله بكتابه "الاستشراق"

من جهة أخرى، يبدو المنظور اليساري لصاحب "تاريخ لبنان الحديث"، هو الأكثر دقة وعلمية في قراءة هذا المشهد الملتبس الذي يجعل كثيراً من المؤمنين به على شفا الكفر به، لتراكبه وتعقّده.

الثورات تسقط أنظمة الأفكار أيضاً
يبدأ طرابلسي كتابه بالتعريف للديمقراطية "كعملية تحويلٍ جذرية للمجتمع من حيث طبيعة السلطة فيه وعلاقات القوى بين مكوّناته"، بمثابة مقدمة ضرورية وحتمية لأي حراك ثوري. ففي القسم الأول من الكتاب (بدراساته الست) يؤكّد طرابلسي على أن اندلاع الانتفاضات العربية كان مؤشّراً هاماً إلى مكامن خلل أساسية في الخطاب النيوليبرالي الرأسمالي المهيمن، خلال ربع القرن الأخير، وبأن هذه الانتفاضات بعينها شكّلت نقداً بالممارسة للمقولات الرئيسة لهذا الخطاب.

ومنذ الدراسة الأولى "الثورات تسقط أنظمة الأفكار أيضاً!"، ثمة دعوة جهرية لاستبدال الأدوات والمفاهيم السائدة ولإعادة الاعتبار لمفهوم "الشعب" كهوية رئيسية للسكان "مقابل التعريفات الانتمائية والثقافوية المهيمنة التي روّجت لها أيديولوجيا العولمة الأميركية خصوصاً"، حيث أن شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" يعيد لهذا المفهوم حقّه المسلوب كأساسٍ لأية سلطة وأية شرعية، ويسعى لإعادة صياغة جذرية للعلاقة بين الحكّام والمحكومين.

وفي الوقت ذاته، لا يُغفل طرابلسي أهمية الجانب الاقتصادي كمرادفٍ جوهريٍّ لعملية التحرر هذه، حيث يشير بوضوح لاستحالة تحقّق أية حرية بلا مساواة؛ مساواة سياسية وقانونية "بما هي شريك الحياة في بناء نظام ديمقراطي"، إذ أن استبعاد شعار "عمل، حرية، خبز" لصالح شعارات أخرى مثل "ثورة كبرياء وليست ثورة غذاء" يبدو بالنسبة إلى طرابلسي "رد فعل ساذجاً و ناقصاً على تقديم الأنظمة الرشاوى المعيشية رداً على مطالب التغيير السياسي" (ص 30). ويرى كذلك بأن هذه الشعارات النابذة "تنم عن ذهنية تطهيرية ونخبوية سائدة تقيم الفصل بين القيمة والمبدأ من جهة، وبين المصالح من جهة ثانية. وهي بذلك تشي بضيق أفق طبقي يتغافل عن مصالح و تطلعات الجسم الاكبر من التحالف الشعبي العريض الذي يخوض الانتفاضات".

فهذه الأنظمة عملت بشكلٍ مديد على مبدأ التركيع بالتجويع، إذ أن امتهان الكرامة لا يقتصر على القمع والتعذيب، بل يتعدى إلى البطالة والتفاوت الاجتماعي، حيث جمعت هذه الأنظمة الثروات من سرقة المال العام، والاستحواذ على الأراضي الأميرية، وتبييض الأموال، بيع مؤسسات القطاع العام، تنظيم الاحتكارات وحمايتها، قبض العمولات، وفرض الخوات، ونيل الرشاوى المليارية على صفقات السلاح و العقود مع الشركات الأجنبية. فالعلاقة عميقة بين الأسر المافيوية الحاكمة وبين مؤسسات الرأسمالية  الدولية. وهذه هي ذروة الاستغلال الرأسمالي للشعوب، و هذا هو الفساد الفعلي، وليس فقط فساد الموظف الصغير المرتشي الذي يراد معاقبته وتبرئة المفسدين ممن يملك المال اللازم للإفساد. إنها "لصوصية لا مجرد فساد".

ولا ينسى طرابلسي التركيز على العامل الاقتصادي حتى حينما ينتقد القومية العربية في دراسته "العروبة والأيديولوجيا القومية: عروبة الحاضر"، إذ يرى بأن "تغييب منطق المصلحة إضافة إلى تغييب الاقتصاد من المشروع الوحدوي عامل إضافي من عوامل تكريس التجزئة وإضعاف العالم العربي عموماً، وعجز القوى القومية والإسلامية، وملحقاتها اليسارية، عن الإنجاز".

ويُنهي طرابلسي القسم الأول من الكتاب بدراسةٍ عن إدوارد سعيد يحاول فيها إنقاذ فكر سعيد من اختزاله بكتابه "الاستشراق" (1978)، وثنائية شرق/غرب التي التصقت بإرث سعيد بحسب الترجمات والقراءات العربية لفكره. إذ يبيّن طرابلسي اللحظات الثلاث التي مرّ بها سعيد وصولاً إلى "ذروة تطوره الفكري في رؤياه الأنسنية والعلمانية التي شكّلت الديمقراطية مكوّنها الأساسي". وتكمن اللحظة الأولى في الانتقادات التي طالت كتاب "الاستشراق" من قِبل عددٍ كبيرٍ من المفكرين والنقاد بلغاتٍ متعددة، وصولاً إلى اللحظة الثانية المتمثلة بكتابه المهم الآخر "الثقافة والإمبريالية" (1993)، حيث "فتح سعيد ورشة تصحيح لما في "الاستشراق" من شطح وأحادية جانب، آخذاً بعين الاعتبار الملاحظات النقدية الموجهة إليها خصوصاً من جهة اليسار"، وانتهاءً بلحظته الثالثة والأخيرة المتمثل بانطلاقته نحو الإنسانية الديمقراطية العلمانية في كتابيه الأخيرين اللذين صدرا بعد وفاته: "الأنسنية والنقد الديمقراطي" (2004) (والذي ترجمه طرابلسي إلى العربية في العام 2005 عن دار الآداب)، و"في الأسلوب المتأخر" (2006)، ويؤكد طرابلسي بأن هذه النقلة لم تكن نقلة مفاجئة بل "كانت تختمر في اللحظتين السابقتين بركيزتها الفلسفية التي تقول بأن البشر يصنعون تاريخهم بأنفسهم وأن مفاتيح هذا العالم هي في هذا العالم".

ويشتمل القسم الثاني من الكتاب على 25 مقالةً كان طرابلسي قد نشرها في صحيفة "السفير" البيروتية في الفترة الممتدة بين شهر أبريل (نيسان) 2010 وأكتوبر (تشرين الأول) 2011، أي عملياً قُبيل اندلاع الانتفاضات بأشهر قليلة وصولاً إلى انتصار انتفاضات تونس، مصر وعدم توضّح المعالم بعد بالنسبة لانتفاضات ليبيا، اليمن، وسوريا.

وعلى الرغم من آنيّة تلك المقالات وارتباطها بلحظةٍ مؤقتة وعابرة بسبب طبيعتها الأسبوعية، وعلى الرغم من بساطة أسلوبها، إلا أنها لم تخلُ من العمق الذي عوّدنا عليه صاحب "صورة الفتى بالأحمر"، كمفكّر ومترجم ومناضل يساريٍّ عنيد برغم كل الانتكاسات والهزائم التي طاولت الفكر اليساري في ربع القرن الأخير بشكل خاص.