السبت 7 مايو 2016 / 15:31

النص والجسد

عندما وُجّهت لي الدعوة لأشارك في أمسية حوارية بعنوان "النّص والجسد" في معرض أبوظبي للكتاب، وجدتني أفكّر كثيرًا في كلمة "الجسد"، فعلى الرغم من وضوح معنى كلمة "النّص"، إلا أنّ دلالات كلمة "الجسد" وعلاقتها بـ"النّص"، والنّص الأدبي تحديدًا، كانت غامضة بالنّسبة لي. تواصلت مع منظّمي الأمسية، واتّضح لي بأنّ كلمة "الجسد" ليست إلا "شفرة" تعني "الجنس"، تلك الكلمة الخطيرة التي لم يعد بإمكان أيّ كاتب استخدامها دون أن يحفّز ضدّه حماة العفّة وكهنة الفضيلة.

تذكّرت فيما بعد، وأنا أعدّ للأمسية بالبحث عن والغوص في النّصوص الأدبية الإماراتية الصادرة في السبعينيات والثمانينيات، ما قاله النّقاد حول الأديب الروسي تشيخوف، الذي كانت حياته الأدبية حافلة بالمئات من القصص القصيرة، "لو أن روسيا اختفت من الوجود على حين غرة فإننا سنستطيع إعادة رسمها بالاعتماد على قصص تشيخوف فحسب". إذًا، يمكن اعتبار النّص الأدبي، بمعنى أو بآخر، وثيقة سوسيولوجية تكشف حالة المجتمع الفكرية في فترة ما وترصد تحوّلاته الثقافيّة.

مرّ الخطاب السردي في الإمارات، منذ السبعينيات وحتى اليوم، بتحولات كبيرة تركت بصماتها على الموضوعات التي تناولها الأدباء في أعمالهم، وعلى الجرأة في التعاطي مع هذه الموضوعات.

بالعودة إلى عام 1971، وهو عام إعلان الإتحاد، نستطيع أن نتلمّس بعض الملامح الثقافية لهذا المجتمع في تلك المرحلة من خلال قراءة رواية "شاهنده" " لراشد عبدالله النعيمي، وزير الخارجية الإماراتي السابق، التي صدرت في العام نفسه. لا تكمن أهمية هذه الرواية في موضوعها أو بناءها الفني أو رياديتها ، بل في تأسيسها لبدايات صحيحة وصحية للأدب الإماراتي، خالية من التابوهات والخطوط الحمراء.

هذه الرواية لو صدرت اليوم، لربما طالب البعض بحرقها، ودعا البعض الآخر إلى صلب كاتبها على رؤوس الأشهاد لتأكل الطير من رأسه. ولكن من حسن حظ الكاتب أنه أصدرها في لحظة مواتية من التاريخ

بعد عقد من الزمان تقريبًا، وبالتحديد في عام 1982، يصدر محمد المر، الذي سيشغل منصب رئيس المجلس الوطني في عام 2011، مجموعته القصصية الأولى، يلحقها بعد ذلك ب11 مجموعة أخرى. في العام نفسه، ينضم إلى المشهد الأدبي علي أبو الريش الذي يعلن عن قدومه برواية "الاعتراف". اللافت للنظر في قصص المر وروايات أبو الريش أنها وظّفت الجنس بشكل جرئ في الوصف وفي اللفظ كذلك.

حتى الآن تبدو الأمور على ما يرام، ولو سُئل المنجّم "نوستراداموس" لتنبأ، بالاستناد على معطيات الماضي، بمستقبل باهر للنصّ الأدبي في الإمارات في القرن الجديد، ولكن فجأة، في الحقيقة لم تحدث الأمور فجأة ولكنني أستخدم الكلمة هنا للضرورة الدرامية، تعرّض المشهد الثقافي لانتكاسة حادّة. فمع غياب الرّواد عن السّاحة، ظهر جيل جديد من الكتّاب، أغلبهم من مواليد السبعينيات والثمانينيات، يكتبون ما يسمّونه بالأدب المحافظ، والأدب غير الخادش للحياء .. إلى آخر المسمّيات التي لا توجد إلا في قواميسهم. هذه النّصوص الخجولة ليست إلا انعكاسًا للحالة الثقافية الرّاهنة. ما نراه اليوم من كُتّابٍ خجولين وقرّاء حسّاسين ليس إلا نتيجة طبيعيّة لتغوّل الحركات الإسلامويّة على، وتغلغلها في، المشهد الثقافي، في فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وصناعة العديد من التابوهات والمحرّمات التي لا يجرؤ كائنًا من كان على الاقتراب منها. على الرّغم من تذمّر الكثيرين، اليوم، من كثرة التجارب الروائية للكتّاب من مواليد التسعينيّات، إلا أنّني متفائل كثيرًا، فهؤلاء هم الأقلّ احتكاكًا وتأثرًا بسموم وأفكار الحركات الإسلامويّة، وآمل أن يخرج من بينهم من يعيد الأدب الإماراتي إلى المسار الصّحيح.