الإثنين 30 مايو 2016 / 18:43

حقيقة القوانين الأولى

غلبت العاداتُ القوانينَ المكتوبة إلا في البعض الذي بقي راسخاً، كما هو في الهند، فالمرأة الهندية المسلمة أو المسيحية أو اليهودية ما زالت تدفع مهر زوجها حسب تقاليدها لا دينها. إذ تبقى القوانين التابعة للعادات مناسبة إن كان من الممكن تكييفها مع المتغير الحياتي، تمامًا كما الاتحاد الذي وقع بين الدين والقوانين والعادات والسلوك في الصين، حتى باتَ مقبولاً

كل القوانين العالمية الحديثة فضلاً عن السماوية، أخذت أصولها ومصادرها من عادات الشعوب القديمة ذات التقاليد العريقة التي كانت ترى أن لها الحق في أن تحب عاداتها النابعة من القيم الإنسانية، وتدافع عنها أكثر من أي شيء آخر، خاصة بعد أن ارتقت بعاداتها وتقاليدها، فقلدتها الأمم الأخرى إما باتباعها أو بالاقتداء بها أو حتى محاكاتها، فمصادر القانون الحالية لا تنفي أن قوانينها إن لم تكن وليدة الظروف الإجتماعية، أو ناجمة عن ظروف تاريخية.. فإنها مستمدة من قوانين قديمة وأعراف لها علاقتها بالحكمة والفطنة.

دخلت القوانين المدنية والسماوية والشرائع المكتوبة على هذه الشعوب الطيبة الأعراق في المجد والسؤدد، اهتز نُجباءها ولم يستسيغوها في البدء، إذ كانت العادات بمثابة دين راسخ، وهي في الأصل لا تقبل الإهانة، وتُخالف من يخرج عن الأدب والرصانة والأمانة، وأكد أشرافهم من القوم أن عاداتهم وتقاليدهم راسخة وحُرة، ولا تُعنى سوى بالإنسان وسلامته، وإلا كيف من الممكن أن يضمنوا براءة أرضهم؟.

كانت هذه الشعوب المعتدة بتقاليدها لا تدون بما تحكم، فهي ترى أنها قوة ولن تطمس، لأنها نبعت من صلبها الأخلاقي وبنواياها الوجدانية، وحاشيتها وأنصارها وضميرها، رغبةً بالسمو والوقار، وبعزيمة لا تقاعس فيها، للوصول إلى هيئة واضحة ومعلنة.

وكان معروفاً لدى هذه الشعوب أنها لا تعاقب الساحر، ولا تراه مذنباً أو آثماً، في عقابه وقتله يختل الأمن في النفوس، فالتقاليد تريده أن يشعر بالملاذ في وطنه قبل كل شيء، أليس الملاذ نظاماً أيضاً؟.. وإن كان على خطأ ومجانب للصواب، فليس هناك أجمل من الرحمة بالتعامل معه والنصح، مادام انه لم ينتهك الآداب، وهذا ما يجري أيضاً على الملحد، والمخالف والناكر والجاحد.

لكن حين ازداد سواد أهل الأرض من الناس ونمت أعداد المدن فيها، تمثّل أول قانون تشريعي مكتوب فكانت شريعة بابل التي أنشأها حمورابي وظلت راسخة تتحدى قدرة الملوك على تغييرها فيما بعد. نُقِشتْ على حجر "الديوريت" الصلب قبل الميلاد بألف وسبعمائة عام، وقد استقت بنودها من الطبيعة وما كان يعيشه الناس في المدن العراقية من تقاليد وعادات، كُتبت هذه الشريعة بهدف توحيد هذه المدن، فالقانون المكتوب يُكرّس ويثبت إن كانت هناك زعزعة وقلاقل.

وكذلك المسيحية في بدايتها، أخذت تعاليمها من البنية الاجتماعية اليهودية التي كانت تعيش فيها والسياسة الرومانية الحاكمة لها، أي أخذت شريعتها من كليهما مع مراعاة تعاليم السيد المسيح.. وهكذا مع بقية الشرائع التي صنعت قوانينها من تاريخ أخلاقها وتراثها وتقاليدها، فأصبحت تنسخها وتكتبها مع إضافة أهدافها الرئيسية.

تمضي القرون وتتحول معظم قارة أوروبا في قوانينها إلى المَدَنيّة في فترة خروج الكنيسة، لتمزج قوانين السماء التي ناسبت الأرض، وتصبح ثابتة خاصة في المعاملات، بعد التمحيص والتنقيح ونقاش ماهيتها واختبارها.

ولقد غلبت العاداتُ القوانينَ المكتوبة إلا في البعض الذي بقي راسخاً، كما هو في الهند، فالمرأة الهندية المسلمة أو المسيحية أو اليهودية ما زالت تدفع مهر زوجها حسب تقاليدها لا دينها. إذ تبقى القوانين التابعة للعادات مناسبة إن كان من الممكن تكييفها مع المتغير الحياتي، تمامًا كما الاتحاد الذي وقع بين الدين والقوانين والعادات والسلوك في الصين، حتى باتَ مقبولاً.

نعود للعادات التي خرجت من صلبها القوانين المتقدمة، والشرائع السماوية، فلم تجئ قوانينها ضد الطبيعة بقدر ما أتت بعد التقصي والتأويل والتحليل وإعمال العقل حسب الحالة التي أمامها، قولاً لا تسطيرًا، إذ ترى أن التدوين والتأليف ينطوي على خبث يداري رغبات الحاكمين لتجيء القوانين موافقة لمصالح الاقوياء لا الفقراء.. كقانون الصبر على الأذى.

يبقى تبرير الإنسان المعاصر مُقنعاً بعد أن وضع القانون كبديل للعادات، ذاك بأن القوانين اكثر تنظيماً لأعمال المواطن، أما العادات أكثر تنظيماً لأعمال الإنسان، وبين السلوك الباطني للإنسان والخارجي له، تنتشر القوانين وتتوارث كما العادات وتتغير بتغير الإنسان، ولا ثبات لشيء ولا اعتمادٌ أبديٌ لقانونٍ مهما كان.