الإثنين 13 يونيو 2016 / 20:48

بين ضفتين من تاريخه "ابن رشد"

لم يكن ابن رشد فيلسوفاً فقط، بل كان فلكياً وفقيهاً وطبيباً وقاضياً.. لكنه وبسبب ما رُمي به من تكفير لم تعد علومه مقروءة، وهو لم يكن في نيته سوى رد الإعتبار للفلاسفة

عاصر ابن رشد في مدينته قرطبة الأندلسية الكثير من العلماء، منهم الطبيب القرطبي ابن ميمون وهو حاخام يهودي تخلق بأخلاق المسلمين والعرب، فنودي من قِبلهم بالرئيس موسى احتراماً لعلمه. تأثر ابن ميمون بفلسفة معلمه، خاصة بعد تفسيره للحياةِ بمنطقٍ فلسفي، مما دفعه لتقليد طريقته، فذهب إلى العهد القديم والتلمود وقام بتأويل النصوص بما يتلاءم ومنطق العقل.

ويفخر اليهود اليوم بفيلسوفهم ابن ميمون الذي عَقْلَنَ كتبهم وتشريعاتهم وقدمها لهم مجددة ، بينما جحد المسلمون جهود ابن رشد ورموه بالإلحاد لمجرد تفسيره تفسيراً روحياً معتقداتٍ شعبيةٍ عن الدين، كما حقدوا عليه بعد رده في كتابه "تهافت التهافت" على المسائل العشرين التي تناولها الغزالي في كتابه "تهافت الفلاسفة".. كان جواب ابن رشد عقلانياً لغيرته على الفلاسفة ودورهم الإنساني الخلاق، فالمسائل كلها تتعلق بالدين والمجتمع، لكن الغزالي كَفّرَ ابن رشد في ثلاث من هذه المسائل التي أجاب عليها، عن قِدم العالم، وعن أن الله لا يحيط علماً بالجزيئات، ولإنكاره بعث الأجساد وحشرها مع الروح. وكما قال الغزالي إنها إجاباتٌ لا تلائم الإسلام.

لم يكن ابن رشد فيلسوفاً فقط، بل كان فلكياً وفقيهاً وطبيباً وقاضياً.. لكنه وبسبب ما رُمي به من تكفير لم تعد علومه مقروءة، وهو لم يكن في نيته سوى رد الإعتبار للفلاسفة بعد أن قال الغزالي في كتابه أنه من الأفضل للفلاسفة الانشغال بملاحظاتهم الطبية والحسابية والفلكية، فالوجود شيء غير قابل للإدراك بحواس الإنسان.

لابن رشد صديقٌ فيسلوف من مراكش يدعى ابن طفيل، كان متيقظاً بعد أن كفّروا صديقه ابن رشد ومنتبهاً لطريقة تفكير مَن حوله، فذهب إلى كتابة قصة، وقدمها كحكاية أسطورية أدبية فلسفية تُدعى "حيّ بن يقظان" ترمز للإنسان وعلاقته بالكون والدين في جزيرة لوحده.. صبَّ في قصته هذه كل أرائه الفلسفية بقالب خيالي هرباً من النقد والتكفير.. قال النقاد فيما بعد أنها أهم قصة كُتبتْ في العصور الوسطى، بعد أن ألهمت الكثير من الحكايات مثل روبنسون كروز وطرزان وغيرها.

تأثر ابن رشد بالفيلسوف ابن باجه الذي توفي وابن رشد ما زال فتى، وتأسف ابن رشد على أنهم اتهموه بالإلحاد والخروج.

.. لمعرفة الفلاسفة الذين تعقبهم ابن رشد واتبعهم وتأثر بهم.. فإننا نعود إلى الفيلسوف الفارابي في دمشق والذي سبقه بقرنين من الزمان، الذي اهتم بالمنطق، وشرح مؤلفات أرسطو العقلية، وقد عكف على دراسة طبيعة الوجود وما وراء الطبيعة.. وهكذا حتى انتقل بخطاب لغوي وعلمي صرف، إلى أولوية العقل، فلم يتعرض في آرائه لأي تكفير وهو المستثنى الوحيد.. ورغم فارق الزمن بين ابن رشد والفارابي، فإن كليهما نهج أسلوب فلاسفة اليونان وتأثرا بهم، كونهم يمشون بين الناس، يرون ويتساءلون ويفسرون، حتى سمي الفارابي بالفيلسوف المتجول، أو بالمعلم الثاني بعد المعلم الأول أرسطو، ويكفي ابن رشد مدى استفادته من المفردات الفلسفية التي أدخلها الفارابي إلى العربية، فلولاه لما تمكن ما بعده من الوصول إلى ما توصلوا إليه.

وإن عاد ابن رشد إلى الوراء ب 400 عام، وجد الكندي في بغداد، كيف قرَّب الفكر الفلسفي اليوناني وجعله مقبولاً عند المسلمين، بعد ترجمته للكثير من النصوص المعتمدة على تفسير العقل، ورغم إسهاماته العلمية في البصريات والرياضيات والفلك والكيمياء والفيزياء والنفس والهندسة.. تم تكفيره. لذا أدرك ابن رشد ولم يستغرب تكفيره رغم مكانته الكبيرة، وقوة عائلته الفقهية العريقة في قرطبة.

بعد وفاة ابن رشد، ورغم موقف المؤسسة الدينية "الإسلامية والمسيحية واليهودية" منه، انتبه لمنتَجه الإيطاليون، منهم القديس بونا فنتورا، الذي اتخذ موقفاً وسطياً بين العقل والدين باتباعه منطق ابن رشد، واللاهوتي توما الأكويني، الذي أنتج علوماً فلسفية ضخمة في العصور الوسطى، تأثُراً بأعمال ابن رشد، مروراً بالفيلسوف بيترو بمبوناستي الذي أسس "المدرسة الأرسطية الرشدية" تيمناً بابن رشد وتقديراً لفكره الكوني.. كما وضعه دانتي ألليجيري في كتابه "الكوميديا الإلهية" مع فلاسفة آخرين، والفنان رافائيل رسم ابن رشد بعمامته المتخيلة في لوحته "مدرسة أثينا" وهو ينظر منتبهاً بتركيز خلف العالم الرياضي اليوناني فيثاغورث.

لقد كان لكتابات ابن رشد دور ملهم في قيام النهضة في إيطاليا ومن ثم في أوروبا كلها، وقد لقيت شروحاته وأعماله إقبالاً عظيماً، مما دفع بأوروبا إلى الرجوع إلى فلسفة اليونان من جديد عن طريق ما قدمه ابن رشد لهم، بينما لم يأخذ المسلمون سوى علومه الفقهية، مهملين شروحاته العقلية.

وحسناً فعل القائمون على معرض أبوظبي للكتاب 2016، إذ احتفوا بابن رشد عنواناً محورياً لهذا العام.