الإثنين 27 يونيو 2016 / 18:42

مجرد صورة

استوقفتني الصورة، الخبر عن تقدم جماعات الشيطان المتسترة برداء الدين إلى إحدى المناطق العربية المنكوبة. الصورة لا علاقة مباشرة لها بالخبر لكن فقط وُضعت كمجرد مثال على الجرائم المقززة لتلك الجماعات الشيطانية الملتحفة برداء الدين؛ الدين الذي كان من المفترض أن يكون رسالة محبة فإذا به يتحول لأداة قتل.

في الصورة شاب صغير، ربما في السادسة عشرة أو السابعة عشرة على أكبر تقدير، معصوب العينين بعصابة سوداء، مربوط اليدين على عمود ما، أو ربما جدار. يرتدي قميصاً أبيض مخططاً بكُمّين قصيرين، على الصدر، حيث السكين تشق القلب يبدو رسم لشجرة رمادية على القميص الأبيض المشقوق عن الصدر البضّ الفتيّ الأبيض، السكين تنغرز في صدر الشاب تفتح لحمه من أعلى الصدر باتجاه القلب، السكين مغروز عميقاً في الجرح المفتوح، والشاب المعصوب العينين يبدو من حركة شفتيه المنفرجتين قليلاً، شفتيه الشابتين الممتلئتين المائلتين للون الوردي، أنه كان حيّاً منذ قليل، وأنه كان واعياً لجريمة قتله. السكين يمسك بها رجل ملثّم بالشماغ العربي المرقط، هذا الشماغ الذي كان رمزاً لكرامة العربي ونخوته وعزته وعدم رضاه على الضيم والهوان، هذا الشماغ يلتحفه اليوم أراذل البشر، يتلثمون به في ادعاء امتلاكهم هوية خاصة إلهيه تخولهم نزع الروح واقتلاع القلوب، القلوب الحيّة النابضة التي أعجزت العلم البشري، من صدور البشر، البشر الذين هم كلمة الله، الله الذي خلق الأكوان، الكواكب، والمجرات وكل نبض حي ما عرفنا منه وما لم نعرف، الله العظيم الخالق الجبار الكبير المتعالي رب العرش العظيم الذي إذا أراد لشيء أن يكون قال له "كن"، الله الذي نفخ في هذه الأجساد من روحه، يأتِ الآن من يتلثم برمز الكرامة العربية، ويرفع السكين باسم الله، ليشق بها صدر صبي يلهو.

هناك جرائم كثيرة تُرتكب على مدار اليوم والساعة والدقيقة في كل أنحاء الأرض، هذا الكوكب المأزوم بأهله، لكن ما يُرتكب منها باسم الله هو الأبشع على الإطلاق. أتأمل في ملامح الشاب المصلوب المعطوب، بشرته مشدودة صافيه، شعره كثيف ناعم، كان سيكون شاباً وسيماً، كم جلست أمه على رعايته؟ كم ساعة وجع عانت منها أثناء ولادته؟ هل كان خروجه من رحمها سلسلاً أم ظلت تتعذب طوال ليلة كاملة حتى جاءت البشرى في الصباح لأبيه "مبروك جاءك ولد". الولد الآن معلق مصلوب مذبوح صورته تتداولها النشرات الإخبارية في أخبار عابرة صارت عادية ولا تعنيه هو بالخصوص. الولد الآن أصبح مجرد صورة. الولد الذي كان يجري نحو أبيه حين يراه مقبلاً إلى البيت "بابا أريد حلوى" الأب الذي تعب وراح وذهب ليجلب للولد الحلوى والألعاب وكراسات المدارس والأحذية وذلك القميص الأبيض المخطط ذو الشجرة الرمادية المشقوقة ناحية الصدر الآن. الولد الذي كانت تعده أمه ليتزوج ابنة خالته ربما، وربما الذي كان قلبه يخفق بنظرة من ابنة الجيران أو زميلة في الدراسة، ربما كان يرسم قلباً على الدفتر في الليلة السابقة، يفكر أن يكتب رساله لحبيبته الصغيرة يخبرها بخفقان قلبه العذري، القلب الذي يطعنه الآن رجل كبير ملتحي يرتدي الأسود ويتلثم بالشماغ العربي لينتزعه ويأكله مثل آكلة الأكباد هند بنت عتبه، كم مرة سيحترق قلب الرسول على حمزه؟

الولد الآن مجرد صورة، كل ذلك الحليب الذي دره ثدي أمه حناناً عليه وهي تضمه إلى صدرها رضيعاً، ذهب الولد بالحليب كله. كم كانت تحلم لأجله؟ هل كان ولدها الأول؟ هل جاء بعد أخواته البنات؟ هل انتظرته طويلاً؟ ربما خضعت لمحاولات كثيرة لكي تحبل، هل جاء بعد بكاء طويل ورجاء من الله أن يرزقها الولد ولا يذرها فرداً وهو خير الوارثين؟

الولد الذي ذهب إلى المدرسة وعاد منها لسنين طوال ومعه كانت تذهب وتعود آمال والديه وأحلامهما وكل الشقاء لتربيته، ومعه محبة خالته وتدليل عمه له، الولد الجميل ذو البشرة البيضاء الناعمة والشفاه الوردية الفتية والشعر الأسود الكث، معلق الآن على عمود يذبحه وحش أمام العالم ؛ العالم الذي يتفرج بصمت لأنه وجد في قصة ولد يُذبح ورقة يناور بها في أروقة الألاعيب السياسية. الولد الذي كان بهجة روح جده و جدته، الجدة التي لطالما التجأ لحضنها هل كانت تفكر أنه سيموت قبلها مقتولاً لأنه..لأنه..لأنه.. في نظر العالم مجرد حجر شطرنج؟
هل يعرف الرجل الكبير الكريه ذو الأنفاس الكريهة خلف ذلك الشماغ العربي المرقط أن يده المعروقة المشعّرة التي تمسك بمقبض السكين ليغرزه بكل قوة في صدر الشاب الصغير، أنه لا يقتل الولد وحده، بل أحلام أمه وأبيه وأهله وصحبه ورفاق المدرسة ورائحة الأيام الماضية والذكريات وصدى ضجته والضحكات وألعاب الطفولة والخفقات الأولى والنبض بالحب؟ هل يعرف أنه يقتل معه معنى الاُنس بالصبا في هذه الحياة، والأمل والايمان في قلب كل من يشاهد الصورة؟ هل يدرك هذا الذباح الأعمى كل هذا؟ هل يدرك العالم شيء من هذا؟ أم على الشاب الصغير أن يظل معلقاً هناك معصوب العينين مربوط اليدين مشقوق الصدر في صورة تتداولها الجرائد في أخبار مختلفة كل مرة بمنتهى العاديّة دون أن يهتم به أحد؟!.