الإثنين 11 يوليو 2016 / 19:26

عدسة "ويلفريد"

تعابير الوجه والعيون ذات المدلولات العميقة تكشف المبدع ومحتواه في مبالغته أو إهماله في بعض الأحيان

شاهدت منذ أيام صورة فوتوغرافية مضيئة بعدسة الرحالة الإنجليزي ويلفرد ثيسيجر تُظهر بدويًا جالسًا فوق ناقة. إلى هنا تبدو الصورة عادية للبعض، إذ تكمن قيمة اللقطة لتاريخها البعيد، الذي يعود إلى العام 1945م.. فيما تبدو ثمينة للبعض الآخر، لأنها التُقطت في أبوظبي، حيث ندرة "الكاميرا" آنذاك، وخلوّها من تلك العدسات اللاقطة، وإلا ما خصوصية رجل يقود جملًا!

لكن بقي الإبداع خلف هذا الرجل والناقة حيث التدرجات الكثبانية الرملية العالية والضوء الساقط من السماء ببياضه على الرمال، ما يجعل الرجل وناقته يبدوان وكأنهما قد خرجا من الصورة والحياة، حيث لا وجود إلا لظلّيهما في هذا الوقت الذي لا ينكسر فيه الضوء، فالشمس ساطعة من الأعلى.. لتصبح إمكانية المصور ورؤيته الحساسة هائلة لهذا المكان الدقيق وللمسافة المناسبة التي توقف عندها بين الأرض والسماء قبل التقاطه لها، جعل المشهد كالخيال رغم الحقيقة الكاملة، لارتكازه على الضوء والمسافة، لتصبح الصورة بين كل تلك الأمواج الرملية التي عبثت بهما ذات قيمة فنية راسخة وموثقة بإبداع قبل كل شيء.

الرحالة ويلفرد والملقب في جزيرة العرب بمبارك بن لندن.. أتخيّله لو وُلِدَ قبل هذه الفترة بمائة عام، حيث لم يكن لعدسة التصوير وجود، وكان الرسم هو ما يشغل العالم، والرحالة الذين أحبوا الشرق وعبروا من خلال أعمالهم الفنية عن الناس والحياة الاجتماعية والأشغال، في كل تلك البلاد العربية والهندية والفارسية والأفريقية، وأبدعوا مئات اللوحات التي أصبحت الآن جزءًا من الذاكرة لجيل آخر لا يعرف الأمكنة التي مضت والتي ما عادت كالسابق، فأصبح هذا الجيل مع العصر الجديد وحرية الرأي ينتقد لوحات المستشرقين بتنويرٍ مختلف، ليرى مبالغات الرسامين لمشاعر من رسموا والذين كان من الممكن تخيلهم في الكتب التاريخية من خلال الوصف بين السطور أو كشفهم في متون الأدب وثنايا الشعر والسير.

فهل كان الرحالة ويلفرد سيرسم البدوي على الجمل وخلفه كثبان رملية بهذا الوضوح من ضوءٍ وتأثيرٍ وسطوع؟.. بين النعم واللا، فإن تعابير الوجه والعيون ذات المدلولات العميقة تكشف المبدع ومحتواه في مبالغته أو إهماله في بعض الأحيان.. فيصبح الإعجاب بالعمل الفني والرسم هو إعجاب للعمل الإبداعي الفني لا في تعابير الخوالج، لذا تبقى العدسة في حقيقتها معبرة وكاشفة وواضحة بكل تجلياتها وعيوبها، ولا تُكذب الرائي حولها، فقد تعدى الرأي لتبيان النقاوة والعمق للصورة رغم هذا الجمود.

موهبة ويلفريد التصويرية كانت بلا التباس رغم شهرته كرحالة وككاتب.. لكن عدسته أثناء تجواله لم تحمل تلك الصورة فقط، بل أكثر من ثمانية وثلاثين لقطة تبرع بمعظمها لمتحف تابع لكليته في أكسفورد حيث تعلم.. صورٌ حية وجميلة، عنايته واضحة بعدسته وأبعادها المدروسة رغم قسوة الأجواء وحرارة الشمس والرياح المحملة بالأتربة.. وثقت تلك العدسة كثبانًا رملية عالية في الظفرة وليوا وعروق الشيبة إلى أبوظبي.. وآباراً وشخصيات حملت في عيونها قسوة الحياة وروعة القلب.. ورغم أصدقائه بقيت العدسة رفيقة دربه في الجزيرة العربية التي أدهشته كما ذكر.

تمر الأيام ويزور ويلفرد المنطقة من جديد، ويتم تكريمه بحب من قِبَل الشيخ زايد بن سلطان رحمه الله.. لكنه بالمقابل حزن على تلاشي حياة البدو واندثار جَمال الصحراء رغم قسوتها، وزوال ما جرى، ليصبح البقاء للعدسة اللاقطة.