الخميس 11 أغسطس 2016 / 19:12

"سيرة المنتهى عِشْتُها.. كما اشْتَهَتني!": تجليات الموريسيكي الأخير

هذه الرواية السيرية الاستثنائية مكتوبة بذائقة شعرية حميمة ولغة صوفية كاشفة تمتزجُ بطاقات محبة وعاشقة لاستحقاقاتنا في هذه الحياة..

"سيرة المنتهى عشتها كما اشتهتني" هي الرواية السيرية لواسيني الأعرج(1954_...) الروائيّ والأكاديميّ الجزائريّ الذي يعيشُ متنقلاً بين الجزائر وباريس حيث يدّرس في جامعة السوربون العتيدة. لقد اختار واسيني أن يكتب في هذه الرواية السيرية رواية أسلافه الأندلسيين وخاصة جده الكبير الموريسيكي (سيدي علي برمضان إلكوخو دي ألميريا) المسمّى الرُّوخو الذي عاصر أزمنة نهايات حكم العرب في الأندلس، وعاش كذلك زمن التحوّل إبَّان حكم الإسبان وإجبار من بقي هناك من المسلمين على اتخاذ أسماء إسبانية واعتناق المسيحية.

وأنا أقرأ هذه الرواية السيرية الخاصة بالأسلاف استحضرتُ إلى ذاكرتي صورة الفتاة الإسبانية "مونتسيرات"..حضرت مونتسيرات إلى الأردن لتعلم العربيّة في مركز اللغات بالجامعة الأردنية...كان مجيئها بحثًا عن أصولها الأولى؛ فبعد تقميش وبحث طويل في شجرة عائلتها توصلت إلى أنَّ جذورها عربية مسلمة وهكذا اتخذت قرارها : كانتْ الوحيدة من عائلتها التي أسلمت وعندما رأيتها لأول مرة في عمّان كانت ترتدي فستانًا وشيلة خليجية ويؤشرُ جمالها اللافت بصورة واضحة على قسمات جمال عربيّ صميم في أصوله.

كتب عدد من الروائيين العرب عن نهايات العرب في الأندلس ومن أجمل الروايات"ثلاثية غرناطة" للراحلة الجميلة رضوى عاشور وكذلك رواية "ليون الإفريقي" للروائي أمين معلوف . ولكن ما يميز ما قام به واسيني الأعرج في هذه الرواية السيرية أنه هنا يسرد تاريخ جماعته سردًا روائيًا متخيّلاً، أليس لكلّ جماعة متخيّلها الرمزيّ الخاص كما يذكر هومي بابا؟ نعم واسيني هنا يساءلُ تاريخًا إشكاليًا ببوح ذاتي ومكاشفات صوفية عميقة.

أورد واسيني الأعرج في مفتتحه السردي متناصاتٍ دينيةً تتعالقُ مع موضوعه الذي اختاره في هذه الرواية السيرية: النهايات.. الموت وعالم البرزخ والعروج : آيات قرآنية كريمة من سورة" النجم" وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى. عِنْدَهَا جَنَّةُ المَأوَى. إذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشَى". كما يورد واسيني حديثًا عن المعراج من كتاب(صحيح البخاري) و(كتاب المعراج) أو (الإسرا إلى المقام الأسرى) للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي و(النشيد الخامس) من كتاب (الكوميديا الإلهية) لدانتي أليجيري و(تقرير إلى غريكو) لنيكوس كزانتزاكي.

واسيني في روايته السيرية هنا يغادر الحياة في رحلة العروج بحثًا عن جده الأكبر الرُّوخو الذي ينام في مرقده الأخير بجبل النار..يرى واسيني تابوته مكتوبًا عليه اسمه وتاريخ ميلاده ووفاته بالعربية واللاتينية وكلمة صغيرة كان يرددها دائمًا" لقد عشتها كما اشتهتني لأنها كانت الأقوى. لم أكن استثناءً عظيمًا في هذه الدنيا، ولم أكن إلهًا صغيرًا، لكني لم أمر على هذه الحياة كغيمة جافة"...

يقول واسيني الأعرج عن احتفالاته بيوم ميلاده طوال هذه العقود الفائتة"لقد احتفلتُ بصدفة الأقدار، بعيد ميلادي الستين، في تونس، وأنا في قمة انتشائي بالحياة كما في اللحظة الأولى. سبق أن احتفلتُ بعيد ميلادي العاشر في مسقط رأسي، قرية سيدي بوجنان، وكان الكثير ممن أحبُّ مايزالون أحياء. عيدميلادي العشرون احتفيتُ به بين وهران وتنيرة بسيدي بلعبّاس، مع أصدقائي من المتطوعين من الطلبة، لصالح فلاحي الثورة الزراعية. عيد ميلادي الثلاثون كان في الشام، في مدينة الروح والقلب دمشق، كنت طالبًا في الدراسات العليا، أستعدُ لمناقشة دكتوراه دولة في الآداب. عيد ميلادي الأربعون احتفيتُ به في المنافي، في باريس وأمستردام. بينما العيد الخمسون اخترتُ أن يكون في الجزائر العاصمة لشيء غامض في الأعماق. وعيد ميلادي الستون ، فكّرت في أن يكون في أحضان قريتي". ولكن تشاء الأقدار أن يحتفل واسيني بعيد ميلاده الستين في ضاحية الولي التونسي الصوفي سيدي بوسعيد؛ هذه الضاحية التونسية الجميلة الخلّابة التي تمتاز بسلالمها ومراقيها الحجرية الطويلة، ولم أكن أعرف عندما زرتها قبل بضع سنوات أنها سلالم ذات دلالات صوفية عميقة في ارتقاء المريد حتى يصل إلى الدرجة الأعلى "درجة الكشف والفيوضات " للقطب الصوفي.

التفت الناقد جمال الدين بن شيخ إلى ضرورة الاهتمام بالنصوص المهمَّشة في الثقافة العالِمة ومنها كتابات المتخيّل عن المعراج في الثقافة العربيّة الإسلاميّة وامتداداته إلى شعوب وحضارات مجاورة تأثَّرت بالمتخيّل العربيّ الإسلاميّ. ولهذا أنتج ابن شيخ كتابه الإبداعي المهم عن المعراج الذي أسماهLe Voyage Nocturne De Mahomet .

لقد اشتمل هذا الكتاب المهم جدًا على نصوص فسيفسائية هي خليط من روايات متخيّلة عن المعراج إلى جانب روايات تنتمي إلى الثقافة الشعبية ومنها رواية والدة جمال بن شيخ. ولعلَّه وقع حافر جميل عندما ينتج الروائي الجزائري واسيني الأعرج نصه المعراجي الذي تتواشج فيه السيرة بالمتخيّل البرزخي لرحله عروج صوفية وينتج قبله الجزائري جمال الدين بن شيخ كتابه عن "المعراج". ويُلاحظ في "سيرة المنتهى" وجود مسارين روائيين متشابكين؛ المسار الأول هو مسار الجدة حنّا فاطنة وهي الساردة التي لديها النبوءات والاستباقات للمسارات السردية المستقبلية بما تمتلكه من كشف صوفي عميق ويتعالق مع هذا المسار كشوفات الشيخ الصوفي الأكبر محي الدين بن عربي الذي رأى في منامه رؤيا عقد قرانه على الحروف فكان إلهامه بتأليف كتاب "الفتوحات المكية". أمّا المسار الآخر فكان مسارًا تاريخيًا متخيلاً يحضر فيه جد واسيني الأكبر الموريسيكي إلرُّوخو. ثمّة أعمدة خمس في "سيرة المنتهى" الأول العمود التاريخيَّ الذي ينتمي إليه الأعرج سلاليًا وثقافيًا ومكّنه من التقميش عن سيرة أجداده الموريسكيين ومزجها بذاكرة العائلة الأرشيفية ومنها روايات الجدة حنّا فاطنة. والعمود الحكائيّ المرتبط عضويًا بشخصية حنّا فاطنة ذات الثقافة الشعبية التي أسماها الكاتب "الوسيط الأسمى بينه وبين جدة الموريسيكي الرُّوخو" ثم عمود الوفاء وقوة الصمود ثم عمود الحب والعاطفة ثم عمود سرفانتس (مبدع رواية دون كيخوته) ويجمعه مع الأعرج التعامل بشهامة ونبل في أزمنة الانكسارات القاصمة.
في خاتمة هذه الرواية السيرية كتب واسيني الأعرج عن "بعض ما خَفِيَ من سيرة المنتهى" ومنه حديثه عن التشكُّل الأول لهذه السيرة في صفحة "الفيسبوك" الخاصة بالدكتورة سهام شراد وما أعقبه هذا النشر الأولي من سجالات إبداعية محتدمة ومشتعلة مع بعض الناقدات والنقاد العرب من المتواصلين افتراضيًا مع هذه الصفحة.

لماذا هذه السيرة؟ سؤال يجيب عنه واسيني الأعرج الذي قرَّر في لحظة مواجهة مع الذات وهو يقف بمواجهة ناطحات السحاب وأبراج مشروع سكايلاين في داون تاون لوس أنجلس أن يكتب عن واسيني الطفل الذي عاش بالصدفة وكبر بالصدفة وتعلَّم ونجح بالصدفة. أليست حياتنا استحقاقات جميلة ينبغي أن تُعاش كما يعتقد واسيني الأعرج؟

وأختمُ حديثي عن هذه الرواية السيرية الاستثنائية بالقول إنها مكتوبة بذائقة شعرية حميمة ولغة صوفية كاشفة تمتزجُ بطاقات محبة وعاشقة لاستحقاقاتنا في هذه الحياة..هذه السيرة ذات فرادة خاصة تليق بروائي عربي أنتج خطابًا على قدر كبير من الخصوصية الجميلة.. ذلك هو واسيني وتلك هي "سيرة المنتهى"..الحياة التي عاشته كما اشتهته وكما اشتهاها!