الإثنين 3 أكتوبر 2016 / 19:46

النص الماهر يصنع قارئاً ماهراً

عم مهمة استدعاء القارئ اللامرئي مهمة شاقة ومعقدة وفريدة ولكنها في كل الأحوال لا تليق إلا بمبدع حقيقي وقارئ يستحق العناء

ما الذي يدفع المثقف إلى إقامة نمطٍ متطور من الحميمية مع قارئ لا مرئي؟ تسأل الناقدة الأمريكية هيلين فندلر ..

قد يكون القارئ اللامرئي مقدساً يأخذ قدسيته من احترام المثقف لنفسه ولمنتجه معاً .. المثقف الذي لا يريد أن يتحايل على عقل قارئه ولا يرغب في معاقبته معرفياً فيزجه في متاهات لا تفضي إلا الى متاهات مماثلة .

أخطر ما في النص أن يكون تهديداً لوعي المتلقي فيقوده إلى حيث يريد بروية واسترخاء ولكن من هو القارئ اللامرئي؟ إنه الكامن المتخفي دائماً ..

كيف نستطيع صناعة نص يستدعي ذلك القارئ ونجعله ينحاز لما نكتب .. يتأثر ويستجيب .. يتفاعل ويحلل .. ينسجم مع انفعالاتنا .. يخطط للتنقيب عن شيء يشبهه فينا .. إن مهارتنا هي من تدعوه لهذا دون أن يدري ..

والت ويتمان يتوجه إلى قارئ مألوف لديه ولكنه لا يعرفه .. جون أشبري يحاول أن يتصل بالقارئ عبر كلمات معمقة وحذرة ..

والآن هل يكتب المثقف لنفسه التي يراها كل الآخرين سواء قرأوا له أم لم يقرأوا؟ محنته تكمن في كيفية صناعة قارئ له .. إنها أمنية ليست صعبة التحقيق ولكنها مضنية .

حينما قرأت ما كتبه أودن عن أخيل تخيلت أخيل هذا وعقدت صداقة معه لأنني فهمت لماذا اختصر هوميروس البطولة فيه .. وحينما قرأت المتنبي عشت قلقه ودهشته وأحزانه وأمانيه واكتشفت ممدوحيه وسخرت معه ممن هجاهم وانتميت لعالمه .. إنني اتضامن مع ذاتي من خلال ما أقرأ .

أودن قادني إلى حيث يريد بكل وداعة .. جعل مني أداة مطواعة لتلقي تعاليمه المعرفية وإسناد رأسي إلى وسائد عوالمه .. لم يلغ ما هو كائن بي ومُكرَّس ولكنه أضاف إليهما الشيء الكثير .

كتبت الشاعرة الأمريكية إميلي دكنسون تقول: هذه رسالتي إلى العالم الذي لم يكتب لي قط !. إنها تكتب لقارئ لا مرئي يخفي نفسه ولا يُعلن عنها ولكنه يستجيب لاستدعاء الشاعرة له .. لا يهمها من يكون ولن تجهد نفسها في البحث عنه .. إنها تصنع لنصها جناحين وتطلقه من بين أصابعها إلى العالم وتكتفي بذلك .

النص الإبداعي ليس فكراً ومعرفة فقط، إنه حشد من النيازك تتجمع دفعة واحدة وتنطلق دفعة واحدة والإبداع لا يوجد إلا حيث يوجد خلق وصناعة .. إنهما مهمتان صعبتان للغاية يرزح تحت قسوتهما المبدع ..

كيف يستطيع خلق النص الذي هو بَصْمَته المعرفية وكيف يستطيع صناعة قارئه .. قلة قليلة من المبدعين استطاعوا أن يستدعوا القارئ اللامرئي إلى عالمهم الذي نحتوه وأطالوا الوقوف أمامه..

لا تدع تجربة تفوتك ادخل في عمق كل الأشياء .. هذه الجملة جعلت من هيرمان هسه صياداً ماهراً لقرّائه لأنه اشتغل على التنقيب داخل انفعالاتهم وأزماتهم فأحسوا بأنه الأكثر شبَهاً بهم وقرباً إليهم فانتموا إليه أو ربما يكون قد هدد أماكن تحفظاتهم وأضاء عتماتها أو تجرأ على من لا يتجرأ عليه غيره .. صدم حواسهم وأعتقها فقادهم له .

أجمل ما في لحظة الإبداع انفلاتها المبهر من الحيز الجزئي الضيق إلى الكوني المتسع والمطرد والمترامي الأطراف .. هذا الإنفلات يجب أن يتسرب من وعي معرفي خلاق هدفه الوصول إلى الآخر والاشتغال عليه .

نعم مهمة استدعاء القارئ اللامرئي مهمة شاقة ومعقدة وفريدة ولكنها في كل الأحوال لا تليق إلا بمبدع حقيقي وقارئ يستحق العناء..
النص الماهر يصنع قارئاً ماهراً في النهاية .