الثلاثاء 18 أكتوبر 2016 / 17:57

في رثاء فاروق شوشة: النجم الذي ارتفع

مثل هذه الكلمات التي تهز خيال أي قارئ، كفيلة بأن تجعل القارئ أياً كانت درجة وعيه أو ثقافته، يتعلق ليس فقط بفاروق شوشة، أو الموضوع الذي يكتب عنه شوشة، بل يتعلق بشعور أنه ينتمي لقيمة أخلاقية وحضارية راسخة الجذور أكبر عنه وعن الشعر والنثر

يعتقد البعض أن مستقبل اللغة العربية مظلم، البعض يعتقد أنها قد تندثر والبعض يشتكي باستمرار من إهمال العرب لتراثهم اللغوي الغني، هذا التراث الذي لا يقتصر فقط على الشعر وقصائده، بل يمتد إلى فنون النثر على تنوعها كأدب الرحلات أو السيرة الذاتية أو توثيق سيرة المكان والقائمة طويلة. هذا بالإضافة للمخزون الضخم من الكتابات الفلسفية والتأريخية والصوفية وغيرها والتي كتبها أصحابها بأناقة لا تزال تشع حتى يومنا.

لكن رغم ظلمة واقع اللغة العربية، ورغم الإهمال ورغم غبار النسيان الذي استقر على آلاف الصفحات من التراث، لا يزال هناك من يعود للماضي (وكذلك الحاضر) ليستخرج بعض تلك الجماليات التي تخبرنا من نحن. هنا يدخل فاروق شوشة في الصورة الكبيرة، هذا العاشق للغته عشقاً قارب في حرارته محبة المتصوفة لله والبشر. خدم فاروق شوشة اللغة العربية من خلال مجالات مختلفة، ولكن أكثرها قرباً للناس كانت برامجه الإذاعية التي حاول منها أن يجعل تذوق جمال العربية، أمراً يومياً اعتيادياً لدى جميع طبقات وفئات الناس.

لكني أتذكر شوشة عبر زاويته الشهرية في مجلة "العربي" الكويتية، والتي كنت أعيد قراءة وتذوق حروفها المرة بعد الأخرى. أتذكر التسعينات الميلادية عندما كنت أحرص على شراء "العربي" مطلع كل شهر، لأقرأ تحليل شوشة لمختاراته من الشعر والنثر العربي في مختلف العصور. أتذكر جيداً ما كتبه شوشة في 1997 عن أمير الشعراء أحمد شوقي وأنقله هنا بتصرف "خاتمة وطليعة المحدثين هذه هي مكانة شوقي شاعر العصر الحديث. الموسيقى في شعره نشوة طاغية، وإيقاع جياش متدفق، وأصوات متجاوبة متناغمة، تنطق بالحس الموسيقي الرفيع". مثل هذه الكلمات التي تهز خيال أي قارئ، كفيلة بأن تجعل القارئ أياً كانت درجة وعيه أو ثقافته، يتعلق ليس فقط بفاروق شوشة، أو الموضوع الذي يكتب عنه شوشة، بل يتعلق بشعور أنه ينتمي لقيمة أخلاقية وحضارية راسخة الجذور أكبر عنه وعن الشعر والنثر.

وفي موضع آخر ينثر شوشة تساؤلاته حول المتنبي فيقول "هل من تفسير لامتداد صوت المتنبي فينا؟ مخترقاً العصور والأحقاب طاوياً الأماكن والبلاد، هل لأنه الصوت الجامع لحكمة النفس الإنسانية في اعتصارها للخبرات والتجارب والمواقف والأحوال في زمن خواء النفس وتهافت الروح؟". تتوالى مثل هذه الكتابات والتحليلات العميقة الرائقة من شوشة باستمرارية زمنية وبالحب نفسه الذي يجعلك في موضع القارئ المشارك في تجربة استشعار النص وتذوقه، والأهم من هذا يضعك في مكانك الصحيح، كوريث للغة جميلة ذات تراث إنساني غني متعدد الألوان. رحم الله فاروق شوشة.