الخميس 3 نوفمبر 2016 / 18:16

محمد حسنين هيكل.. وأزمة المثقفين

تكشف المقالات التي كتبها "هيكل" خلال هذين العامين، عن أن السياسات الناصرية كانت تتجه أيامها إلى حالة من التهدئة في أعقاب العواصف السياسية التي عاشتها في الأعوام الثلاثة السابقة، بسبب تداعيات حرب 1956 والمعركة ضد الأحلاف

بعد شهور قليلة من صدور الجزء الأول من كتاب "بصراحة" الذي يضم المقالات التي كتبها محمد حسنين هيكل على صفحات جريدة "الأهرام" خلال الفترة التي تولى فيها رئاسة تحريرها بين عامى 1957 و1974، وهو الجزء الذي يضم المقالات التي نشرتها له الأهرام خلال أعوام 1957 و1958 و1959، صدر عن "مركز الأهرام للنشر"- هذا الأسبوع - الجزء الثاني من هذا الكتاب المهم، وهو يضم المقالات التي كتبها "هيكل" على صفحات "الأهرام" خلال عامي 1960 و1961.

وكما كان الحال فى الجزء الأول، فإن الجزء الأكبر من مقالات الجزء الثاني يتعلق بسياسات العهد الناصري الدولية والعربية، مع إشارات عابرة إلى انعكاساتها على السياسة الداخلية، التي كان اهتمام هيكل بالكتابة عنها يأتي - خلال هذه المرحلة - في المرتبة الثالثة من اهتماماته، على نحو جعله لا يتناول - إلا نادراً - ما هو داخلي صرف من هذه القضايا، ربما بسبب ضراوة المعارك التي كانت مصر الناصرية تخوضها على الصعيدين الدولي والإقليمي، انطلاقاً من استراتيجيتها التي كانت تذهب آنذاك، إلى أن التناقض الرئيسي هو التناقض بين حركة القومية العربية بقيادة مصر، وبين أعداء هذه الحركة من المستعمرين والصهاينة والشيوعيين والأنظمة العربية المحافظة.

وعلى نحو ما تكشف المقالات التي كتبها هيكل خلال هذين العامين، عن أن السياسات الناصرية كانت تتجه أيامها إلى حالة من التهدئة في أعقاب العواصف السياسية التي عاشتها في الأعوام الثلاثة السابقة، بسبب تداعيات حرب 1956 والمعركة ضد الأحلاف، والتفكك الذي أضعف الصف العربي في أعقاب الوحدة المصرية - السورية، وقسمه إلى معسكرين ثوريين ومحافظين، بل ونشوب الصراع العدائي داخل المعسكر الثوري، بسبب الخلاف بين توجهات ثورة 23 يوليو 1952 في مصر، وثورة 14 يوليو 1958 فى العراق، وبين زعامة «جمال عبد الناصر» وزعامة عبد الكريم قاسم، وبين القوميين العرب والشيوعيين، وبين مصر والاتحاد السوفييتي.

وفى هذا السياق استهل هيكل كتاباته لعام 1960 بالاحتفاء ببداية العمل في المرحلة الأولى من السد العالي، وبالاتفاق بين القاهرة وموسكو على أن يمول الاتحاد السوفييتي إنشاء المرحلة الثانية منه، وفيما عدا مناوشات متقطعة بين البلدين، بسبب الحملة الإعلامية والسياسية التى كان شنها إعلام دول المعسكر الاشتراكي ضد الإدارة الناصرية احتجاجاً على اعتقال وتعذيب الشيوعيين المصريين والسوريين، رد عليها هيكل بأسلوب أكثر دبلوماسية عما كان يفعل عادة، فقد بدا وكأن كل شيء هادئ على صعيد العلاقات بين القاهرة وموسكو.

وفيما عدا ما وصفه هيكل بأنه مؤامرة إسرائيلية لتعكير صفو العلاقة بين القاهرة وواشنطن، بتحريضها لعمال السفن في ميناء نيويورك، على مقاطعة إحدى السفن المصرية، في محاولة منها لحشد الرأي العام الأمريكي ضد سياسة مقاطعة إسرائيل، التي كانت الدول العربية تمارسها، فقد بدا وكأن كل شيء هادئ على صعيد العلاقات بين القاهرة وواشنطن، وكان من دلائل ذلك، أن هيكل قد رحب بانتخاب الرئيس الديمقراطي جون كيندي لرئاسة الولايات المتحدة في خريف ذلك العام، مذكراً إياه بالمواقف الودّية التي اتخذها سلفه الرئيس أيزنهاور تجاه مصر خلال حرب السويس لعام 1956.

في هذا الجزء الثاني من مقالات هيكل التي كان يكتبها بعنوان "بصراحة" سوف نجد شواهد كثيرة على محاولات بذلتها دول عربية - بينها الأردن والعراق - لتهدئة الأجواء بينها وبين الجمهورية العربية المتحدة، تلقتها القاهرة - على لسان هيكل - بتحفظ لا يسد الباب أمامها، ولكنه لا يخلو من شك في نيات أصحابها، وسوف نجد شواهد أخرى على أن القاهرة، على الرغم من سعيها لتهدئة الأمور على الصعيد الدولي، والتزامها بسياسة الحياد الإيجابي لم تتخل عن التزامها بدعم حركات التحرر في العالم العربي، خاصة في الجزائر، أو في أمريكا اللاتينية بتأييدها للثورة الكوبية، أو في الكونغو.
 
أهم ما يتضمنه هذا الجزء من مقالات هيكل هو في تقديرى سلسلة المقالات التى نشرها بعنوان "نظرة على مشاكلنا الداخلية في ضوء ما يسمونه أزمة المثقفين"، وقد بدأ نشرها فى 2 يونيو وانتهى منه في 21 يوليو(تموز) 1961، فى اليوم نفسه الذى أعلن فيه عبد الناصر القرارات الخاصة بالتأميمات الواسعة التى تنقل بمقتضاها إلى الدولة ملكية الأعمدة الرئيسية للاقتصاد المصري، ليكتشف الذين تابعوها أن هذه المقالات - التي صدرت بعد ذلك في كتاب يحمل الاسم نفسه - كانت تمهيداً لتلك القرارات، وأنها أشبه بمذكرة تفسيرية سياسية واجتماعية واقتصادية للقوانين الاشتراكية التي تتالت بعد ذلك، ويتأكد لديهم أن هيكل لم يكن مجرد كاتب يقتصر دوره على الترويج لسياسات عبد الناصر، وحشد الجماهير حولها بعد صدورها، ولكنه كان يكلفه - كذلك - بأن يمهد الرأي العام لفهم ما ينوي أن يصدره من قرارات أو سوف يتبعه من سياسات.

وفضلاً عن ذلك، فإن هذه المقالات وما كتبه هيكل من مقالات أخرى حول الثورة الاشتراكية، بعد صدور قرارات يوليو 1961، تشكل أول اهتمام واسع بالشؤون الداخلية المصرية في كتاباته، إذ لم تكن هذه الشؤون من بين الاهتمامات البارزة فيما كتبه قبل ذلك، كما أنه لم يكن من المعروفين بحماسهم قبل هذا التاريخ للفكر الاشتراكي، بل كان أقرب ما يكون إلى المحافظين، بل ربما المعادون له.

ويلي هذه المجموعة من المقالات في الأهمية المجموعة التي كتبها بعد أربعة شهور من ذلك، وبدأ نشرها في 13 أكتوبر(تشرين الأول) 1961 بعنوان "ما الذي جرى في سوريا؟" - وقد صدرت بعد ذلك فى كتاب بالعنوان نفسه - وقد روى فيها قصة الوحدة المصرية - السورية منذ البداية، حتى انفصال سوريا فى 28 سبتمبر(أيلول) 1961، إذ لم تكن أول إطلالة على كواليس السياسة الداخلية خلال عهد الوحدة فحسب تكشف عن الأخطاء التى وقعت فيها مصر في إدارتها للشؤون السعودية، بل كانت بداية لمراجعة عبد الناصر للسياسات التي اتبعها، أسفرت فى العام التالى عن انتقال حركة القومية العربية من شعار "وحدة الصف" إلى شعار "وحدة الهدف".

وفي الحالتين تبدو أزمة محمد حسنين هيكل تنويعة على أزمة بعض المثقفين الذين يضطرون أحياناً للدفاع عن إجراءات وسياسات لا يؤمنون بصوابها، ولا يتصدون لأخطاء كانوا يثقون بضررها إلا بعد أن تقع الكارثة.