مصريون يتجمهرون أمام كنيسة طنطا بعد التفجير الانتحاري (لاستامبا)
مصريون يتجمهرون أمام كنيسة طنطا بعد التفجير الانتحاري (لاستامبا)
الإثنين 10 أبريل 2017 / 20:07

الإخوان شجرة الموت وداعش ثمرته المحرمة

منذ بداية ثمانينات القرن الماضي، شهدت مصر ودول عربية أخرى مثل الجزائر وليبيا بروز ظاهرة جديدة طغت بسبب حجمها ودمويتها وحضورها الإعلامي، على الوجوه التقليدية الأخرى التي طبعت على امتداد السبعينات من القرن نفسه، مع الاشتراك في صفة واحدة إلى جانب الظمأ إلى الدم والعنف، "العودة إلى الوطن" فتناسلت التنظيمات الكثيرة التي تخرجت في معسكرات أفغانستان ثم باكستان بداية من 1979.

وفي السنوات القليلة اللاحقة، تتالت التنظيمات التي أطلقت عليها التقارير الإعلامية والأمنية صفات "العائدون من البوسنة"، ثم ألبانيا وكوسوفو، وفي السنوات القليلة الماضية، ظهرت على الساحة تنظيمات جديدة في بعض الدول العربية التي تأثرت من تداعيات انتفاضات 2011، مثل العائدون من ليبيا، أو من العراق، في كل من مصر، وتونس، والمغرب، والجزائر، وغيرها من الدول الأخرى المماثلة.

ولكن مع استفحال الأزمة ثم الحرب في سوريا، أصبحت دمشق قبلة "الحشاشين" الجدد، وفق نموذج عمل أصبح معروفاً لدى الأجهزة الأمنية والإعلام وكل متابع للتطورات والتحولات التي تعيشها المنطقة، وذلك بعد انتشار الشبكات المتخصصة في التسفير إلى مناطق الصراعات المسلحة، والقتال مثل العراق، بعد 2003، ثم سوريا منذ 2012 بعد استشراء سرطان داعش في مناطق كثيرة من جسم سوريا المنهكة.

ولكن "العائدين" في مصر اليوم، كما تشير التحقيقات الأولية، مثل العائدين من أفغانستان إلى الجزائر في بداية التسعينات الذين أدموا بلد المليون شهيد، وتسببوا في العشرية السوداء، أو العائدين من ليبيا إلى تونس، يشتركون إلى جانب الخلفية الإرهابية، أي العمل على تأكيد نشاطها وحضورها، ليس عبر العمل السياسي المنظم، أو الدعوي السلمي، باعتبار أن هذه التنظيمات تتصدى للجمع بين السياسي والاجتماعي في الوقت نفسه، بل عن طريق الجريمة العنيفة، ممثلةً في الإرهاب، لدحر الخصم أو المنافس مهما كان انتماؤه، أو فكره، أو عقيدته أو موقعه على الخارطة السياسية، أو خلفيته الدينية والثقافية، بالسلاح والتفجير، بعد أن أطبق عليه غول الجماعات التفكيرية بسلاحها المدمر الذي أصبح أكبر سلاح للدمار الشامل للمجتمعات العربية في العقدين الماضيين: التكفير.

واعتماداً على ما تسرب من التحقيقات الأولية والمبدئية في مصر بعد مذبحة الكنيستين، تُشير المعطيات الأولية المتوفرة لدى المحققين، إلى تورط ما يُسمى بـ"العائدين من سوريا" في الجريمتين، المرتكبتين ضد أقباط مصر، ولكن أيضاً ضد مصر بأسرها بشكل عام، وقبل أسبوعين من الزيارة المقررة لبابا الفاتيكان إلى عاصمة الأزهر الشريف.

وإذا اكتفينا بهذه المعلومات القليلة المتوفرة حتى الساعة، فإن ذلك لا يمنع من ملاحظة تقارب وتشابه كثير بين إرهاب الأمس في مصر واليوم، سواءً كان ذلك بيد داعش، أو الجماعات الكثيرة التي تناسلت في مصر على امتداد ثلاثة عقود، من الجهاد الإسلامي، إلى الجماعة الإسلامية، إلى أحد أكثر التنظيمات تشابهاً مع خلفية العائدين اليوم من سوريا، تنظيم التكفير والهجرة، أو التيار المتفرع عنه ممثلاً في الشوقيين، وغيرها من "محلات" ودكاكين العنف الأعمى والإرهاب الأسود، في سوق الخراب الذي استثمر فيه تنظيم الإخوان المسلمين منذ نشأته في ثلاثينات القرن الماضي.

العائدون من سوريا، تحت عباءة داعش اليوم، ليسوا في الواقع سوى صورة جديدة لمشهد قديم متجدد، يقوم على القطيعة مع المجتمع، ليس بهدف إعادة البناء أو التشكيل، بل تلبيةً لداعية حاقد، أو شيخ غافل، أو ببساطة شيطان "خفي" أو معروف، لا يتورع عن إنفاق الملايين من الدولارات لعزل بعض الشباب المحبط، والمختل نفسياً بمعنى الحائر أو الباحث عن معنىً إيجابي لحياته ووجوده، داخل قلعة فكرية وعاطفية مقطوعة عن المواطنة والتاريخ والعصر، منبتة عن أصلها الثقافي والاجتماعي، لتحويلهم إلى قنابل بشرية قابلة للانفجار كنيسة أو جامع، أو موكب فرح، أو سرادق عزاء.

عندما يستوي الموت والحياة، فإن ذلك وبعيداً عن التحليل السياسي أو الأيديولوجي، يعني أن مقاربة الإرهاب، أولاً وأساساً تحتاج إلى شجاعة أكبر من شجاعة الشاب الذي ضغط على زر تفجير جهازه الانتحاري، وإرادة أقوى من خطط اليد التي مولت، ووفرت السلاح، والتدريب، والسفر، وحشد الأفكار المتطرفة في أدمغة لا تتسع أحياناً لأكثر من بضع مصطلحات جوفاء، أو فضفاضة، رغم انتماء أصحابها وانخراطهم طيلة سنوات في أحيان كثيرة في التعليم بمختلف درجاته ومستوياته.

إن العائدين، الذين انقطعوا في الأصل عن مجتمعاتهم وانتمائهم الوطني والعائلي وحتى الشخصي، لمنطقة أو مدينة، أو بلد، أو ثقافة ليسوا في الواقع سوى نتيجة طبيعية لما ترسب في مجتمعاتنا على امتداد سنوات الأزمة، التي لم تبدأ في 2011، ولا في العقود التي سبقتها، وتأجل حلها ومواجهتها طيلة هذه السنوات الطويلة، بسبب العجز، أو الخوف، أو انعدام الإرادة، التي يسعى العائدون، وما هم بعائدين، فهم في أفضل الأحوال عابرون، أو تائهون بين مصر وسوريا، قبل أن يتيهوا على أبواب الكنائس والمساجد والأسواق، والأفراح والمآتم والطرقات، بلا إرادة، أو رغبة حقيقية، في صناعة شيء، أو تقديم بديل، أو المشاركة في البناء.

إن مذبحة الكنيستين تدخل بمصر والمنطقة العربية عموماً بشكل أوسع ولكن أخطر أيضاً، مرحلةً جديدةً يمكن اختصارها تحت عنوان صراع الإرادات، إرادة الحياة، وإرادة الموت، وعلى الدول والمجتمعات التي ترفض إرادة الموت، أن تفرضها إرادتها ورغبتها في الحياة على صناع الظلام، فالإرادة ليست حكراً على العائدين للانتقام الجبان، ولا على داعش، ولا النصرة، ولا على أصل البلاء، جماعة الإخوان، التي لا تزال تحيك عباءة مصاصي الدم وقتلة الأطفال والعجائز، بتهجمها على الحكومة المصرية، في وقت كان فيه صوت الموت يهدر فيه على عتبة كنيستي طنطا والإسكندرية، وصولاً كما جاء في بيان الفرع الإخواني الجديد "لواء الثورة" بعد الهجوم الوحشي، الذي وصفه هذا اللواء بـ" العمل المذموم والقبيح، الذي لا يسوغه عقل أو شرع" وكفى الله المؤمنين شر القتال.

إن هذه الدعاية الإخوانية التي نهل منها داعش والقاعدة والنصرة والتكفيريون المتقدمون والمتأخرون، هي "حجر الرشيد" الذي يكشف حقيقة لغة الإرهاب وخلفيته، قبل أن يتحول سلاحاً مختبرياً في يد أكثر من طرف، وأكثر من جهة، على خلفية صراع إرادات، مع مسحوق تجميلي بخطاب ديني بسيط مسطح ومعلب، وسيظل الأمر كذلك، ما لم تتفطن المجتمعات التي ابتليت بهذا السرطان "الديني" الذي اخترعه الإخوان منذ 1929، سيظل مصنعاً لتفريخ "العائدين"، و"المغادرين"، وكل من تعرض إلى لوثة فيروس التطرف الأسود، الذين لا يعتبرون سوى علامةً على شكل الصراع بين الإرادات المتقابلة، مع تفوق نوعي يجب أن يتأكد في المعركة القادمة لمعسكر العقل والإنسانية ضد معسكر الظلام والخراب، وأن القاتل باسم الله، أو الدين، أو الجماعة، هو في الأول كما في الأخير، مجرد سفاح، مهما كانت المبررات أو الحُجج، أو السياقات.

إن القاتل معروف، والجريمة مكتملة الأركان، ولا يبقى للمحقق الحصيف سوى اعتقال المذنب ومواجهته بجريمته ومحاسبته على ما تسبب فيه، وكما يقول المثل الفرنسي، ثمرة التفاح لا تسقط أبداً بعيداً عن شجرة التفاح، وهذه ثمار الموت المحرمة متساقطة متكدسة تحت شجرته، فابحث عن الشجرة القاتلة لقطعها، للتخلص من ثمارها المسمومة.