البعلبكي أمام إحدى لوحاته.(أرشيف)
البعلبكي أمام إحدى لوحاته.(أرشيف)
الإثنين 14 أغسطس 2017 / 19:49

أسامة بعلبكي.. شاعر الغيم

يمكننا القول إنّ أسامة شاعر في معرضه الحالي، إنّه أنشودته للطبيعة، ربّما لذلك يمنحنا هذا المعرض نوعاً من الشعور بالسلام ودرجة من الإحساس بالدعة

معرض أسامة بعلبكي في صالة "أجيال" في بيروت هذه المرّة لا يخرج عن الطبيعة، عدا لوحة واحدة للشاعر الورسي ماياكوفسكي منتحراً يضيفها أسامة إلى مجموعته للشعراء. معرض أسامة الحاليّ مشاهد، الكلمة التي نطلقها على الطبيعة بقدر ما نطلقها على وحدات المسرح، والحقيقة أنّ معرض أسامة يجمع بين المعنيين. الطبيعة هنا مركبّة ومصنوعة. إنّك هكذا أمام ما يصلح أن يكون ديكوراً مسرحيّاً. المشهد الطبيعيّ يكاد يقع في طبيعة نموذجيّة، بل نحن أمام عناصر لا تبعد عن أن تكون انعكاس أفكار ومشاعر وكأنّ البيت هنا فكرة البيت. فهو في رسوخه في مقدّمة اللوحة يبدو صارماً مغلقاً مطبقاً كصخرة الواقع، بينما الماء في وسط اللوحة عميق راسٍ كأنّه فكرة الماء، أمّا الغيم وهو المهيمن هنا بحيث يصحّ بأن نطلقه على المعرض كلّه، فيتسمّى به، هذا الغيم يبدو سرّ اللوحة. إنّه في تشابكاته وإلتفافاته وإستداراته يكاد يتكلّم في أعلى اللوحة أو منتهاها. هنا تدور الدائرة ويثور المعترك وتتخلّق اللوحة وتحيا وتتحرّك.هنا عنوان اللوحة وبؤرتها ومركز ديناميتها.

في اللوحة إذاً حوار بين مبتداها ونهاياتها. لانعرف أين تبدأ ومتى تبدأ، لكنّنا ندخل إليها من جهة الرسوخ وننتهي في الحركة بدون أن نقع في الفارق أو نتعثّر به. يمكننا القول لذلك إنّ لوحة أسامة في معرضه هذا تمرين على الإنطباعيّة، لكنّها ليست إنطباعيّة القرن التاسع عشر.أسامة بعلبكي يبدأ من الإنطباعيّة ليشتغل فيها وليصوغها من ناحيته ومن وقته وعلى طريقته. اللوحة هنا ليست سيّالة ولا رجراجة. إنّها بخلاف ذلك مبنيّة راكزة، والضوء هنا لا يموّه سطوح الأشياء. الغيم في اللوحة القريب لما بعد الإنطباعيّة ولفان غوغ بالخصوص أكثر تحديداً، واللوحة نفسها على قدر واضح من الرسوخ بحيث نشعر أنّها قريبة من سينوغرافيا أو ديكور مسرحيّ. البيوت في المدخل أو الصخور أو حتّى المشاهد هي مقدّمات فعليّة للوحة هي قطعة محصورة من الطبيعة وغالباً ما تتّخذ النسق الثلاثيّ نفسه فيكون للّوحة مدخل ووسط قبل أن نصل إلى الفضاء المتموّج المتحرّك. من هنا هذا القرب بين اللوحات، إنّ كلاّ منها يكاد يكون النصّ نفسه، يكاد المشهد الجزئيّ أن يكون الطبيعة بكاملها او نموذجاً عنها. يكاد يكون مصغّرا للطبيعة لكنّه مع ذلك يحويها. لسنا البتّة أمام تفصيل أوجزء أو لمحة. نحن تقريباً أمام الطبيعة وكل لحظة تعيدها أمامنا، كلّ لوحة مديح آخر أو تغنّ آخر بها.

يمكننا إذاً أن نجد إنطباعيّة أسامة بعلبكي الخاصّة. إنّه يشتغل على الإنطباعيّة، يبني عليها، إنّها خيار يخرجه الرسّام على طريقته، يستعيره ويحوّل فيه. يمكننا القول إنّ أسامة شاعر في معرضه الحالي، إنّه أنشودته للطبيعة، ربّما لذلك يمنحنا هذا المعرض نوعاً من الشعور بالسلام ودرجة من الإحساس بالدعة.

نتكلّم عن نصّ متكامل في لوحة أسامة بعلبكي التي تتناول الطبيعة، لكنّنا في قراءة أخرى للّوحة نعثرعلى عالمين أو زمنين. هذا أيضاً من التجديد الذي يسقطه المصوّر فوق الإنطباعيّة.هناك المدخل القاتم الذي يظلّل الأشياء ويجعل منها ظلالاً. إنّها مداخل مظلمة ومغالق ومقدّمات معتمة، بقدر ما هي حواجز وسدود. ثمّة عالم هنا غير مفسّر، لقد ضاع ما بين قسماته وتفاصيله الّتي تداخلت وضاعت بعضاً في بعض. نحن هنا أمام عالم مظلم ولا نتعدّى إذا قلنا إنّه عالم ليليّ، بل لا نتعدّى إذا قلنا إنّه الليل. يشرف هذا العالم المظلم على عالم منير في الغالب، ملوّن بألوان زاهية، إنّه المشهد الطبيعيّ يمتّد أمامه وقد يكون طبيعة وقد يكون غيماً، إلاّ أنّه مع ذلك مبصر مفصح مفصّل بحيث يمكننا القول بثقة إنّنا أمام عالم نهاريّ، بل نحن أمام النهار نفسه. هكذا يجتمع في اللوحة ذاتها الليل والنهار. يمهّد الليل للنهار وينكشف النهار أمام الليل، ولا يتعارض الإثنان بل يتابعان الحوار.